
مارتن ندلوفو (*)
لقد قيل الكثير عن الثورة الصناعية الرابعة، وكيف ستؤثر على وظائف اليوم. حيث ستكون بلا منازع “عصر الذكاء”، مع التداخل القوي بين العالمين المادي والتكنولوجي ، وبروز أكثر لتقنيات مثل الذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي والحوسبة السحابية والروبوتات والمزيد من التأثيرات على طريقة عيشنا وعملنا.
إن قوة التحوَل الخاصة بالثورة الصناعية الرابعة أضحت ملموسة وواضحة في عالم الشغل. حيث تعمل التكنولوجيات الحديثة على تغيير مشهد الوظائف والمهن والوسائل المتاحة لممارسة الأعمال. وهو ما سيحدث ثورة في معظم أماكن العمل، ويغير تمامًا شكلها وكيفية عملها.
لكن، هذا لا يُعدُّ اتجاها جديدا. لأنه من أجل إبراز سوق العمل والمهارات سريعة التطور فعليا، من الحكمة العودة للتاريخ، وبالضبط إلى أول ثورة كبرى في الوظائف – إنها الثورة الصناعية الأصلية.
الوعي بالمستقبل عبر فهم التاريخ
كانت الثورة الصناعية الأولى بمثابة تحول جذري في تاريخ الثروات البشرية. إذ انتقلنا من أسلوب حياة زراعي متكامل إلى نمط يتشكل من الآلات – حيث أفسحت الزراعة والإنتاج اليدوي الطريق لإنتاج الآلات. وقد أدى إدخال المحرك البخاري والطاقة المائية إلى إحداث تغييرات كبرى في بيئة العمل. على الرغم من تراجع الوظائف التي تستوجب يد عاملة غير مؤهلة، برزت مجموعة جديدة من الوظائف، حيث أضحى تقنيو الآلات الميكانيكية مطلوبون لهذه الثورة الميكانيكية.
أعقب الثورة الصناعية الأولى عصر العلوم والإنتاجات الضخمة، ثم جاءت الثورة الرقمية. لقد دخلنا الآن في الثورة الصناعية الرابعة – الثورة التكنولوجية. وبالتالي، ومع كل ثورة صناعية، أصبحت هناك خسائر في عدد الوظائف حيث أضحت الآلات أكثر تعقيدًا وتتولى المهام الأقل مهارة التي كان يقوم بها البشر سابقًا، ولكن في المقابل، توفرت وظائف جديدة يمكن اقتناصها، والتي تتطلب مجموعة من المهارات المستجدة.
وهذا المسار تكرر عبر الزمن – وهو ليس خاصًا بـالثورة الصناعية الرابعة. فرغم الحديث الطويل عن سلبيات فقدان الوظائف والخوف من “تولي الآلات للوظائف”، فهذا لا ينبغي أن يثير المخاوف من فكرة تعلم مهارات جديدة. وبينما لا يعرف أحد منا كيف ستبدو الثورة الصناعية الخامسة، يمكننا أن نطمئن أنه عندما تحدث، ستكون هناك حاجة إلى مهارات جديدة في ذلك الوقت أيضًا.
ماذا تعني الثورة الصناعية الرابعة والمهارات من أجل إفريقيا؟
لقد أدى الوباء إلى تسريع آلية العمل عن بعد. ومعها أدرك العديد من المشغلين أنه يمكن إنجاز قدر كبير من العمل على أساس نظام قائم على المهام مع إرساء عملية تتبع ومراقبة أسبوعية افتراضيا. وبذلك تم تسليط الضوء على حقيقة معاصرة – يمكن لأي شخص أن يكون جزءًا من فريق العمل طالما أن لديه جهازا واتصالا موثوقا بالإنترنت. ويكون ذلك أكثر بروزًا في الوظائف القائمة على تكنولوجيا المعلومات أو المتخصصة في المجال الرقمي، مثل الوظائف التي تهم دعم تكنولوجيا المعلومات وهندسة البيانات وتصميم الرسومات وتطوير التطبيقات وغيرها.
إنها فرصة حقيقية بالنسبة للأفارقة، حيث لم يعد المكان أو الموقع بالضرورة حاجزًا أمام ولوج شركة مستقرة في الولايات المتحدة أو أوروبا الغربية. لكن رغم أننا بدأنا في مشاهدة بروز الموجة الأولى من الأفارقة القادرين على الاشتغال عن بُعد ، لا يزال الطريق أمامنا طويلا قبل الوصول إلى انتشار موجات متعددة من المهارات الرقمية بالقارة واعتبارها مركزًا تنافسيًا في هذا المجال. لذلك من المهم أن تنخرط الحكومات الإفريقية في عملية رفع مستوى مهارات شعوبها للمنافسة في سوق العمل العالمي.
التغيير مهم ويجب احتضانه وليس محاربته
لكي تصبح إفريقيا مركزًا رقميًا للمهارات، نحتاج إلى إعادة تشكيل تفكيرنا حول المهارات. يجب أن نتخلى عن الفكرة القائلة بأن المهارات هي حدث زمني يبدأ فقط في بداية حياتنا المهنية (المبدأ التقليدي للجامعات / المدارس العليا)، بل يجب أن ننظر إليها على أنها مسار متواصل من التعلم طيلة حياتنا الوظيفية. تشتهر كارول دويك ، البروفيسور بجامعة ستانفورد ، بفلسفتها الخاصة بالتطور : “ضمن عقلية التطور، يعتقد الناس أن قدراتهم الأساسية يمكن تطويرها من خلال التفاني والعمل الجاد – العقول والموهبة هي مجرد نقطة البداية. هذه النظرة تخلق حب التعلم والمرونة وهو أمر ضروري للنجاح الباهر “. من الضروري لجميع الموظفين الحاليين والمستقبليين تبني عقلية التطور. إذ يساعدنا هذا في تأطير تفكيرنا لنتعلم أنه كلما أتيحت فرصة جديدة ، فنحن على استعداد لتطوير مهاراتنا لمواجهة هذا التحدي الجديد.
يجب علينا أيضًا إعادة تشكيل فهمنا التقليدي لنقل المهارات كشيء يحدث داخل حدود الفصل الدراسي. مع ظهور التكنولوجيات الجديدة والسحابة ، لم تعد المهارات حدثًا يقع بين أربعة جدران. فحاليا، نحمل الهاتف الذي يمكنه عرض أو بث المهارات أينما كنت ومتى تريد. لدينا الآن فرصة للاستفادة من التكنولوجيا لجلب المهارات إلى الشخص الذي يحتاجها، وأينما كان.
تغيير نموذج تعلمنا أصبح ضرورة ملحة
بطبيعة الحال، أدت جائحة كوفيد -19 إلى تسريع تحولنا إلى منصات التعلم الرقمية. ورغم أن التكوين كان في الغالب يلقن داخل الفصول الدراسية، إلا أن الوباء جعل التحول إلى العالم الافتراضي تطورا حتميا واساسيا . وأصبح الناس يدركون أن التكوين الافتراضي يعد خيارا قابلا للتطبيق. وفتح التعلم الذاتي عبر الإنترنت العديد من الأبواب لاستفادة أشخاص كانوا إلى عهد قريب مبعدين من التكوين. على سبيل المثال ، انتقل SkillsLabs المدعوم من 4Afrika في جميع أنحاء إفريقيا إلى منصات للتعلم الرقمي أثناء الوباء، بينما تحول برنامجنا للمتطوعين، MySkills4Afrika، إلى الارتباطات الافتراضية لأن حظر السفر وعمليات الإغلاق تجعل التكوين الشخصي والمشاركة غير قابلة التحقق.
وإذا كان التعلم عبر الإنترنت أو التعلم الافتراضي سيستمر لا محالة أمام خضوعنا للعمل عن بُعد و تطبيق الابتعاد الجسدي خلال فترة الجائحة، فإن تحقيق النجاح في التعلم الذاتي افتراضيا يواجه تحديين اثنين، الأول هو الدافع، إذ عادة ما يجب أن يكون هناك سبب مقنع لاكتساب الشخص مجموعة من المهارات المعينة. وفي بيئة العمل، عادة ما قد يكون الدافع هو ضمان ترقية أو منصب جديد، والهدف يشمل على الأرجح اقتناص شهادة ما. وهذه الأخيرة تعتبر عاملاً محفزًا قويًا للأشخاص لتحسين مهاراتهم. منذ بدء مبادرة Microsoft Global Skilling في يونيو من هذا العام، أكمل أكثر من نصف مليون متعلم في الشرق الأوسط وأفريقيا، أو ما زالوا في المرحلة النهائية للتكوين، أحد مسارات التعلم العشرة باستخدام الموارد التي تقدمها Microsoft و LinkedIn و GitHub ، والتي تظهر الإقبال الشديد على صقل المهارات التي تتوج بالشهادات.
والعامل الثاني هو الوصول إلى البنية التحتية اللازمة للتمكن من الانخراط الجيد في التعلم الذاتي، وهذا شيء لا يمكننا الجزم به في السياق الأفريقي، لأن الاتصال بالإنترنت، سواء كان عبر جهاز أو كمبيوتر محمول أو هاتف ذكي، ولو بسرعات إنترنت كافية لبث محتوى الفيديو، لا يستطيع الكثير من الأشخاص التوفر عليها، رغم أنها من الحاجيات الضرورية لصقل المهارات. هنا يمكن لمبادرة Microsoft Airband وحملة 4Afrikaالمستمرة للوصول إلى المساحات البيضاء التلفزيونية لتوفير الإنترنت بأسعار معقولة للمجتمعات القروية والمحرومة، أن تحدث فرقًا ملموسًا لتقديم المهارات الرقمية الحيوية لمن هم في أمس الحاجة إليها. تُظهر الأبحاث أن إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى أصبحت متصلة رقميًا بشكل سريع ، مع زيادة انتشار الإنترنت بمقدار عشرة أضعاف في المنطقة منذ سنة 2000. وبينما لا تزال هناك فجوات مقارنة ببقية العالم ، فقد أدى انتشار تقنيات الهاتف المحمول ، إلى فتح الباب أمام التعلم الذاتي السريع عبر الأجهزة المحمولة.
من المحتمل أنه بمجرد تخفيف القيود خلال جائحة كوفيد-19، سنجد أنفسنا نحتضن نموذجًا هجينًا للتعلم ، يدمج كل من التعلم داخل الفصول الدراسية والتعلم الذاتي عبر الإنترنت في أشكال متنوعة. وباعتبارنا مستقبل إفريقيا، أعتقد أنه بقدر ما كنا نثمن الدبلوم الجامعي التقليدي، فإننا سنكون مضطرين إلى الاعتراف بالمهارات والقدرات بدرجة أكبر من الشهادات. ومن المحتمل أن يكون هذا التطور بطيئًا، لكنه تطور لا مفر منه حيث سيستمر التعلم في كسب النقط والأهمية.
التعايش الحتمي بين الإنسان والتكنولوجيا
بدلاً من الشعور بالخوف والقلق ، حان الوقت الآن لاحتضان التقدم الهائل الذي وفرته التكنولوجيا في مجال التعليم وتنمية المهارات. في ظل الوباء الحالي ، أتاحت التكنولوجيا مسارات تعلم بديلة ، وجنبتنا الخسائر التي كانت من الممكن أن تحد من فرص تطوير المهارات. ستكون هناك دائمًا أشياء يمكن للبشر القيام بها بشكل أفضل من الآلات – خاصة المهارات العامة التي يجب أن نسعى جاهدين لتطويرها جنبًا إلى جنب مع المهارات الرقمية اللازمة للمنافسة في مكان عمل عالمي. ستمكّن استراتيجيات التعلم الهجين المهارات من مواكبة الثورة الصناعية الرابعة والثورات الصناعية التي ستتبعها بلا شك.
(*) مدير برنامج المهارات لدى مايكروسفت من أجل أفريقيا