بقلم محمد خليفة (*)
بين فرنسا والإسلام تاريخ قديم من عدم الفهم والتباغض، فقد كانت غالبية الحملات الصليبية التي استهدفت الشرق في القرن العاشر الميلادي تأتي من امبراطورية الفرنجة التي كانت تشكل فرنسا الحالية قسماً كبيراً من أراضيها، ولايزال اسم القائد الصليبي الفرنسي ريموند كونت تولوز، مطبوعاً في ذاكرة تلك الحروب كعلامة على الحقد والكراهية. وعندما نشطت الحركة الاستعمارية الإسبانية والبرتغالية منذ القرن السادس عشر، كانت فرنسا مشغولة بدسائسها لإيقاد حركة الإصلاح الديني في وجه الكنيسة الكاثوليكية وحليفتها الامبراطورية الرومانية المقدسة التي كانت تستعمر معظم غرب أوروبا، وكانت قيادتها آنذاك في إسبانيا. وكان “صلح وستفاليا” نتيجة مباشرة للجهود الفرنسية المبذولة من أجل تدمير تلك الامبراطورية أو تحجيمها على أقل تقدير. وعندما تحقق لفرنسا ذلك راحت، منذ أواخر القرن السابع عشر، تزاحم إسبانيا في استعمار قارة أمريكا. فنجحت في إنشاء مستعمرة ضخمة في الأرض الأم شمال القارة، وهي “لويزيانا الفرنسية” التي تشكل اليوم خمس عشرة ولاية في الولايات المتحدة. وكان الجار العربي لقمة سائغة للنزعة الاستعمارية الفرنسية فتم احتلال الجزائر عام 1830 وأعقبتها تونس ومن ثم باقي بلاد المغرب، وأجزاء واسعة من قارة أفريقيا وآسيا. وهكذا تعملقت امبراطورية الفرنسيين على دماء ومصائب الشعوب. ولأن العالم لم يكن كله ملكاً لفرنسا ولحيفتها بريطانيا، فقد بدأت ألمانيا تتحدى مستعينة بالامبراطورية الرومانية المقدسة بشقها الأوستراي. فكانت الحرب العالمية الأولى التي حشدت لها فرنسا ملايين الجنود من مستعمراتها، وقد قتل الكثير منهم خلال المعارك على مدى ست سنوات من القتال المستمر ليل نهار.ومن سلم منهم خيّرتهم فرنسا، بعد انتهاء الحرب، بين العودة إلى أوطانهم أو الإقامة فيها مع منحهم جنسيتها، وهكذا بدأت نواة جالية عربية وإسلامية في هذه الدولة، وحدث الأمر نفسه في الحرب العالمية الثانية مما زاد من عدد المسلمين، وبعد تحرير الجزائر عام 1962 تم طرد جماعة كبيرة من الجزائريين المتعاونين مع المستعمر، وهم “الحركيّون” فأخذتهم فرنسا وأعطتهم جنسيتها وهؤلاء اليوم يقاربون مليون انسان لوحدهم. وقد كانت نظرة الحكومات الفرنسية المتعاقبة للعرب والمسلمين ممزوجة بالعنصرية، فلم يتم معاملة هؤلاء على سوية واحدة مع الفرنسيين الأصليين، بل تم زجهم في تجمعات معزولة محرومة من الكثير من الخدمات، مما حرّك في الأجيال الحديثة من هؤلاء روح الثورة والانتقام، فالتجأ الكثير منهم إلى التطرف، الذي قابلته الدولة الفرنسية بتطرف مضاد عبّر عنه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في خطاب يوم الجمعة 2 أكتوبر 2020، حيث ذكر “أن الإسلام دين يعيش أزمة ليس في فرنسا فحسب بل في العالم أجمع”. واعتبر ماكرون أن السلطات الفرنسية تتحمل جزءاً من المسؤولية في تطور ظاهرة “تحول الأحياء إلى مجتمعات منغلقة”، مضيفاً “أنهم أي (الإسلاميين) بنوا مشروعهم على تراجعنا وتخاذلنا”. ودعا في الوقت نفسه إلى “فهم أفضل للإسلام وتعليم اللغة العربية”. كما طرح ماكرون تفاصيل مشروع قانون ضد ما أسماه بـ”الانفصال الشعوري”. ويهدف المشروع الذي استغرق تحضيره أشهراً وعرف عدة تأجيلات، إلى “مواجهة التطرف الديني وحماية قيم الجمهورية الفرنسية”. ويؤكد مشروع القانون على ضرورة فصل الكنيسة عن الدولة الذي يمثل عماد العلمانية الفرنسية، وفرض رقابة أكثر صرامة على الجمعيات الإسلامية والمساجد الخاضعة للتدخل الخارجي .كما ينص على “منع الممارسات التي تهدد المساواة بين الجنسين”، بما في ذلك “شهادات العذرية” التي تحرص بعض الأسر المسلمة على استخراجها قبل الزواج. وسيعرض مشروع القانون على مجلس الوزراء في بداية ديسمبر المقبل، ثم يناقشه البرلمان في النصف الأول من عام 2021، أي قبل الانتخابات الرئاسية عام 2022. وفي الحقيقة أن هذا القانون في حال إقراره سيشكل ردّة فرنسية إلى الوراء وليس إجراء مطلوباً لحماية “العلمانية” كما يقول الرئيس ماكرون، فحماية الجمهورية الفرنسية لا تكون من خلال فرض الرقابة الحكومية على تصرفات المسلمين الشخصية وخصوصاً فيما يتعلق بالزواج، بل تكون من خلال النظر إلى المسلمين كمواطنين فرنسيين على سوية واحدة مع الشعب الفرنسي، ذلك أن شعور المسلمين بالتفرقة وعدم الإنصاف هو الذي يدفعهم إلى التمسك أكثر بهويتهم، وهو الذي يمنعهم من الاندماج بقيم الجمهورية الفرنسية، حيث إنهم ينظرون إلى تلك القيم باعتبارها مجرد شعارات لا تعنيهم في شيء. وربما يكون لهذا القانون العتيد تداعيات سلبية قد تدفع باتجاه موجات عنف جديدة يقوم بها مسلمون غاضبون في المستقبل. ومن هنا فالإسلام في فرنسا والغرب بات اليوم على مفترق طرق، فإما أن يتم ترويض الجاليات الإسلامية هناك وبما يتوافق مع عادات وتقاليد وثقافة شعوب الغرب، أو أن يحدث تهجير قسري لتلك الجاليات أو لمن يرفض منها الاندماج بثقافة الأكثرية من السكان.
(*) كاتب من الإمارات