بقلم محمد خليفة (*)
إن التغيرات التي تجتاح عالم اليوم، وما قد ينجم عنها من تبعات، سيكون لها الأثر البالغ في قضايا العالم العربي، بل وقضايا الإنسان عامة.
هذه التحديات، لا شك، تفرض على الأمة العربية أن تقوي أرصدتها من القوة المادية والعسكرية، وأن تحدد أهدافها، وأن تحرص على الجهد الاستراتيجي، فلا تترك للسياسة النظرية أن تطغى وتتعارض مع مصلحة الدولة؛ ومثال على ذلك المملكة المغربية، فهي لا تتوقف عن تحديث قوتها العسكرية والسياسية للدفاع عن حقوقها بالطرق السياسية والدبلوماسية.
هذا الذكاء في التعامل مع القضايا الشائكة يعكس حكمة القيادة المغربية في التعامل مع الملفات المختلفة، ويأتي في مقدمتها اتفاق الرباط وتل أبيب على إقامة علاقات دبلوماسية رسمية بينهما. وجاء هذا الإعلان على لسان الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، عقب توقيعه “إعلاناً يعترف بالسيادة المغربية على الصحراء”.
إن المتتبع لتاريخ المملكة المغربية يجد تاريخًا طويلًا من العلاقات، غير المعلنة، بين المغرب وإسرائيل يبرر بوضوح هذا التقارب الذي أصبح رسمياً ظاهرًا للعيان. فقد قاوم الملك محمد الخامس القوانين العنصرية لحكومة “فيشي”، إبان الاحتلال الألماني لفرنسا، وبالتالي أنقذ يهود المغرب من براثن النازية، ولعب الملك الراحل الحسن الثاني دور الوسيط المهم في عملية السلام في الشرق الأوسط مع العديد من الرؤساء الأمريكيين ورؤساء الحكومات الإسرائيلية والقادة الفلسطينيين. ولم يقطع المغرب علاقاته مع جاليته اليهودية، وكرس دستور 2011 في تصديره ثراء وتنوع المكونات الروحية والثقافية (بما في ذلك الرافد العبري) التي تشكل هوية المغاربة.
وتعتبر قضية الصحراء قضية وطنية لدى المغاربة، بل هي عنوان للكرامة المغربية، لأن الصحراء جزء من تراب المغرب منذ مئات السنين، واحتلال اسبانيا لها لفترة من الزمن لا يغيّر من حقائق الواقع شيئًا. ومنظمة البوليساريو ليست سوى أداة في يد بعض الدول تحركها لخدمة أهدافها في إزعاج المغرب، ومنعه من تحقيق وحدته الترابية، ورغم أن ملف قضية الصحراء لدى مجلس الأمن منذ عام 1991، لكن المغرب أعلن أن الحل الوحيد لهذه القضية إنما يكون في إطار حكم ذاتي ضمن الدولة المغربية، ولأن مواقف أعضاء مجلس الأمن تحكمها المصالح الخاصة لكل دولة، فقد ظل الاقتراح المغربي دون سندٍ دوليّ، بل كانت هناك أطراف إقليمية تسعى إلى إجراء ما يسمى “استفتاء” لتقرير مصير الصحراء بواسطة شعبها. لكن المغرب وبحكمة بالغة كسب موقف أهم دولة في مجلس الأمن، ألا وهي الولايات المتحدة، إلى جانبه.
إن إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أن الحكم الذاتي هو الأساس الوحيد لحل عادل لقضية الصحراء، فهذا الإعلان هو تطور استراتيجي كبير لصالح المغرب، لذا من المرجح أن نجد، ربما في الأسابيع القادمة، خطوات جادة لإغلاق ملف الصحراء في مجلس الأمن، وخصوصاً أن للمغرب علاقات قوية وراسخة مع دول عظمى في مجلس الأمن كفرنسا وروسيا والصين وبالطبع الولايات المتحدة مما قد يعجل بإغلاق هذا الملف.
في الواقع كانت لاءات الدول الغربية ورغباتها تعترض رغبة المغرب في مجلس الأمن، إذ إن بعضها، لا زال، يلهث وراء المصالح الاستعمارية القديمة التي تقتضي ضعف الدول، واستمرار تبعيتها، وشغلها عن التنمية المستدامة بقضايا جوهرية؛ كالحدود المشتركة، والأقليات العرقية والدينية. إن إقفال ملف الصحراء في مجلس الأمن سيؤدي إلى خلق شرعية دولية لتحقيق المغرب لوحدته الترابية، وانتهاء تلك المشكلة التي لا تزال تؤثر على مسار التنمية فيه. إن المغرب، برغم إقامته لعلاقات رسمية مع إسرائيل، لم ولن يفرّط، في مقابل ذلك، بتمسكه بالقضايا العربية العادلة وعلى رأسها قضية فلسطين، وهو لا يزال يترأس “لجنة القدس” التي شُكّلت عام 1975 بقرار إسلامي للدفاع عن مدينة القدس، وهو لن يتخلى عن هذا الواجب في المستقبل. ففي ظل تغير قواعد الصراع في المنطقة، وظهور قوى إقليمية طامعة للنيل من وحدة الأمة العربية ومقدراتها، فإن الأمر الوحيد المتاح أمام العرب هو البحث عن حلول تؤدي إلى الحفاظ على المكتسبات التي تحققت، وتمنع المزيد من تيار الفوضى الذي لا يزال يحاول اختراق دول عربية جديدة.
إن السلام بين المغرب وإسرائيل، وإن كان يخدم الدولتين بالدرجة الأولى، ويفتح بينهما آفاقاً متعددة للتعاون المشترك، لكنه يصب في صالح الاستقرار الإقليمي، كما أنه سيشجع الطرفين الرئيسين في الصراع، إسرائيل والسلطة الفلسطينة، لمتابعة المفاوضات المتوقفة، وبما يؤدي إلى تطبيق التفاهمات التي تم التوصل إليها، في الماضي، على أرض الواقع، وإنهاء الصراع وإقامة دولة فلسطينية وتحقيق السلام الدائم والشامل.
ولاشك أنه من حق المملكة المغربية أن تطالب كافة الدول الاعتراف بسيادة المغرب على الصحراء الغربية، وأن تقتني أحدث الأسلحة، بل يفرض عليها تاريخها أن تسعى لتستعيد مكانتها التي سطرها التاريخ بأحرف من نور، في القرنين الخامس والسادس، حين كانت تمتد حدودها الشمالية إلى جنوب غرب أوروبا، حيث إسبانيا والبرتغال، بينما تضرب حدودها الجنوبية جذورها لتمتد إلى قلب إفريقيا، حيث الصحراء الكبرى، مسيطرة ساحل غرب إفريقيا.
(*) كاتب من الإمارات
البريد الإلكتروني : medkhalifaaa@gmail.com