أخبار عاجلة

محمد خليفة يكتب: العقل العلمي والحرية الإنسانية

محمد خليفة

بالرغم مما حققته اليابان من تقدم علمي لا مثيل له في العالم، إلا أنها تدرك حاجتها المستمرة إلى مزيد من التطوير لعلمائها من الجيل الجديد حتى تحافظ على تفوقها في ظل احتدام المنافسة العلمية، ولهذا تولي جل اهتمامها بثانوية “يوكوهاما للعلوم الخارقة”، المدرسة التي افتُتِحت في أبريل من عام 2009، وتجمع مجموعة من أنبغ الطلاب اليابانيين، وتتكون هذه الثانوية من خمسة طوابق، ومباني متعددة على مساحة 25,000 متر مربع والمطلة على نهر سوميدا.

وتهدف هذه المدرسة إلى تربية وتعليم الطلبة مع التركيز على أربعة مجالات علمية وتكنولوجية هي: علوم الحياة، تكنولوجيا النانو، والمواد البيئة، المعلوماتية والإتصالات، كما تهدف إلى تزويدهم بقدرات علمية فائقة، وطموحات عالية المستوى ليكونوا فاعلين على الساحة العالمية، ويعتمد التعليم الثانوي في هذه المدرسة على السعي نحو المعرفة من خلال التجارب والبحوث العملية على المستويين الفردي والجماعي؛ بحيث يصبح بمقدور هولاء الطلبة التنافس في المجال المعرفي مع طلبة معاهد الأبحاث العلمية العليا، ويشرف على التعليم فيها نخبة من كبار المستشارين المميزين من بينهم الدكتور أكيوشي وادا البروفيسور المتقاعد من جامعة طوكيو، والدكتور ماساتوشي كوشيبا الحاصل على جائزة نوبل في الفيزياء عام 2002، إضافة إلى تعاون 50 من الجامعات والمعاهد والشركات الكبرى التي تحرص على إيفاد الأساتذة والباحثين لإلقاء المحاضرات والتواصل العلمي مع الطلبة والمدرسين.

وهذا ما يجعل ظاهرة العلم إحدى أبرز ظواهر الحضارة الإنسانية الحديثة؛ حيث إنها تمثل الإنسان تمثيلا إيجابيا في هذا العالم، فتاريخ العلم هو تاريخ العقل الإنساني وتنامي البنية المعرفية اللامحدودة، وتقدم المدنية والأشكال الحضارية الإنسانية، وتطور موقف الإنسان من الطبيعة والعالم والتفاعل بينه وبين الخبرات التجريبية، فالتاريخ الحقيقي للإنسان هو تاريخ العلم وليس تاريخ الحروب، لما يتميز به الإنسان دون الكائنات الأخرى من قدرة على صنع التاريخ؛ حيث إن الأصول الأنثروبولوجية لظاهرة العلم تشير إلى أن العلم كموقف إنساني هو أقدم عهدا من التاريخ، بدأ قبل أن يبدأ التاريخ، ببداية وجود إنسان النياندرتال في العالم، أو على أقل تقدير منذ العصر الحجري قبل الحضارة الإنسانية وتاريخها المكتوب بعهود سحقية.

وهذه الأصول الأنثروبولوجية تقودنا إلى مسيرة العلم عبر الحضارات الإنسانية المختلفة، حيث انتقل العلم من وادي النيل ووادي الرافدين إلى الإغريق، ثم انتقل إلى الإمبراطورية الإسلامية، ومن الأندلس إلى إيطاليا في عصر النهضة، ومن ثم إلى فرنسا وهولندا حتى استقر في انجلترا إبان الثورة الصناعية، وواصل مسيرته إلى الولايات المتحدة واليابان.

وفي هذا السياق، اقترن الفيلسوف الإنجليزي فرانسيس بيكون (1561) بحركة العلم الحديث؛ لأنه كان حلقة الوصل بين القارات، ومؤمنا بالعلم كأداة قادرة في يد الإنسان على تحسين الحياة وظروف البشر، وأصبحت دعواه المنهجية إلى المنهج التجريبي، أو الاستقرائي كمصدر للمعرفة أساسا للعلم الحديث، وتصدرت النزعة الاستقرائية الميدان العلمي، بوصفها أقوى صياغة للعلاقة بين تاريخ العلم وفلسفته. واحتلت الاستقرائية مكانة رئيسة في القرن العشرين؛ كتعبير عن فلسفة العلم التي غدت لا صلة لها بتاريخه، وأصبحت الوضعية المنطقية والأداتية هما الركيزتان الأساسيتان لفلسفة العلم، فالوضعية المنطقية حصرت فلسفة العلم في تقنيات المنطق الصوري وأساليبه، وقطعت كل علاقة بالعلم في مجرى التاريخ وسياق الحضارة الإنسانية، وقد قامت الوضعية المنطقية بدور كبير في توطيد أسس النظرة العلمية، وتمهيد السبل لفلسفة العلم، وإسهامه في ميدان المنطق الرياضي، واتضحت أهمية التحليلات المنطقية للقضايا العلمية في عصر البرمجيات وعلم الذكاء الاصطناعي. بينما انطلقت الأداتية من دور الإنسان في صنع التاريخ، وهي الأكثر إيمانا بالبعد التاريخي، وتؤكد على فعالية العقل الإنساني تجاه الطبيعة ودوره في خلق قصة العلم، ولم تفقد الوعي بتاريخ العلم عندما أعلن ماكس بلانك (1858) نظرية الكوانتم، وبعد خمس سنوات برزت نظرية النسبية لآينشتين، وتجعل هذه البداية من القرن العشرين قرنا متميزاً وفريداً؛ حيث اعتُبِرَ هذا القرن نقطة تحول في مسار العلم، وانتهى ذلك القرن متوجا بحصاد علمي يفخر به على كل القرون الماضية، حيث تفجرت فيه طاقة العلوم الطبيعية، وتجاوزت كل مستويات التقدم المعهودة من قبل، وبنهاية نصفه الأول أنتج أكثر من ثلاثة أرباع علم الفيزياء، وفي نصفه الثاني تضاعف هذا النتاج العلمي، ولحقت بالفيزياء بقية العلوم الطبيعية الأخرى، وتأسست فروع أخرى ولا تزال تنشأ في حركة تقدمية مضطردة، وساد المد العلمي رحاب ملكة العلوم والبحث الصوري الرفيع علم الرياضيات، والتي شهدت إنجازات تعد من المنظور الفلسفي ثورة على مستوى المنطق الرياضي.

إن الوعي التاريخي العلمي لم يكن يعني الوعي بالظاهرة العلمية فحسب؛ بل يعني أيضا الوعي بالعلم كفاعلية إنسانية متغيرة بمرور التاريخ، ولذا فلم يعد بناءاَ من المعرفة المنجزة المثبتة بل أصبح فعالية متدفقة، وكشوف مستمرة تصحح ذاتها وتتجاوزها بمراحل، وأصبحت كل فلسفة لا تاريخية للعلم هي فلسفة غير قادرة على أداء مهامها بجدارة، إذ إن علم التاريخ هو أب العلوم الإنسانية، ومن شأن الوعي التاريخي بفلسفة العلم أن يؤدي إلى أنسنة الظاهرة العلمية بكل ما تحمله من حيوية وآفاق مستقبلية، من أجل خير الإنسان، وأيضاً إلى تعميق وتعميم القيم الأخلاقية والعلمية، ولا سيما المتعلقة منها بالكرامة الشخصية وبالاستقلالية في الإنسان. ولا جدال أن الإنسان هو مقياس كل الأشياء، ولذلك يجب على قادة الفكر في العالم العربي مسايرة عصرهم، والمساهمة في تشكيل مستقبل العالم-كما كنا من قبل- بالمساهمة في تطوير صورة العقل العلمي؛ لأن مقاييس جديدة تفرض ذاتها على المجتمع، وأن نسيجاً جديداً تنسجه الحياة العلمية على سُلّم التطور، وأن لا سبيل إلى تجاوز ذلك، إلا بتشكل صورة العالم العربي بالعلم والعقل، ولا حُكم إلا للعقل العلمي بكل مضامينه الديمقراطية والعلمية والحرية السياسية، وذلك لخير الحياة وخير أمتنا.

كاتب من الإمارات

شاهد أيضاً

شاومي تتألق في تصنيف Brand Africa 2025 وتطرح تابلت Redmi Pad 2 بتقنيات متطورة في المغرب

أعلنت علامة شاومي عن احتلالها المرتبة 29 ضمن تصنيف Brand Africa لعام 2025 لأكثر العلامات …