محمد خليفة
تعاني أوروبا في الآونة الأخيرة من أزمة خانقة في الغاز الطبيعي، بسبب قلة المعروض وازدياد الطلب، وقد أسهم في ظهور هذه الأزمة عوامل عدة أهمها: التعافي من جائحة كورونا، وعودة الأعمال إلى سابق عهدها، كما فاقم طول الشتاء الماضي من الأزمة حيث استمر حتى مايو، ما أدى إلى استنزاف كميات كبيرة من الغاز في التدفئة في المنازل، وهذا تسبب في نقص المخزونات، ولم يكن بالإمكان تعويض النقص خلال الفترة الماضية، كذلك فإن إنتاج الغاز في هولندا قد تراجع بعد توقف الإنتاج في حقول منطقة غرونتغن الشمالية، بسبب حدوث هزات أرضية. وفي النرويج لا تزال أعمال الصيانة في البنية التحتية للغاز الطبيعي مستمرة، وقد أعلنت الشركة المسؤولة عن إدارة حقول الغاز في البلاد عن خفض جديد في حجم الإنتاج في حقلي جولفاكس وأوسبرج.
ويشكل الغاز المصدر الأول لإنتاج الطاقة الكهربائية في الاتحاد الأوروبي، وذلك بمقدار 173.5 غيغاواط، يليه الفحم بنحو 155.6 غيغاواط، ثم الطاقة الكهرومائية بمقدار 145.1 غيغاواط، ورابعاً يأتي المصدر النووي بمقدار 121.1 غيغاواط، يليه الرياح والشمس بمقدار 63.9 و30.7 غيغاوط على التوالي. ويأتي النفط في المركز السابع بمقدار 29.3 غيغاواط، ويستخدم الغاز على نطاق واسع للتدفئة المنزلية ولتشغيل المطابخ، ويستخدم أيضاً وقوداً للسيارات.
وأزمة الطاقة في أوروبا ليست وليدة اللحظة، فالقارة التي تضم أربعة من الدول الأكثر تصنيعاً في العالم، تفتقر بشكل كبير إلى مصادر الطاقة، ولعل الفحم الحجري هو الوقود الأكثر توفراً في الأرض الأوروبية، أما النفط والغاز فإن مصادرهما شحيحة ومحدودة في دول معينة. وتستهلك أوروبا ما يقارب 500 مليار متر مكعب من الغاز سنويًا، وتوفر ذاتياً ما حجمه الثلث منها، وتستورد الكمية الباقية.
وقد تنبهت روسيا إلى أهمية سوق الطاقة في أوروبا، ونجحت خلال فترة علاقتها الحميمة مع الغرب، في العقد الأول من هذا القرن، في اقتراح إنشاء مشروع خط أنابيب لربط حقول الغاز الروسية بدول الاتحاد الأوروبي عبر الأراضي التركية، وهو خط السيل الشمالي “نورد ستريم” الذي يمتد من “فيبورغ” في روسيا إلى “غرايفسفالد” في ألمانيا، عبر بحر البلطيق، وهو يقوم بتوصيل الغاز الروسي إلى أوروپا الغربية. وقد تم افتتاح “نورد ستريم 1″، ومن ثم أعلنت روسيا عن افتتاح “نورد ستريم 2″، لكي يكون داعماً للخط الأول، ويغطي دولاً عديدة في أوروبا، وسيعبر السيل الشمالي 2 ، المياه الإقليمية الفنلندية والسويدية والدنماركية والألمانية.
وقد سار هذا الخط كما هو مخطط له، غير أن العقوبات الأمريكية والغربية على روسيا بعد تدخلها في أوكرانيا، قد أعاقت إكماله، ووعدت الولايات المتحدة حلفاءها الأوروبيين بتعويضهم عن الغاز الروسي بمصادر أخرى، لكن الوعد الأمريكي لم يتحقق بسبب عوامل مختلفة، وقد ألحّت ألمانيا على الولايات المتحدة لتسمح للسيل الشمالي 2 ليكمل مسيره إليها. وبسبب انعدام المصادر الأخرى، أو عجزها عن سد النقص في سوق الطاقة الأوروبي، فقد رضخت الولايات المتحدة للمطالب الأوروبية، وأعلن الرئيس جو بايدن مؤخراً، أنه قرر التنازل عن العقوبات المفروضة على الشركة المسؤولة عن خط أنابيب الغاز نورد ستريم. وقد بدأ الغاز بالتدفق عبر ستريم 2 في شهر أكتوبر 2021، لكن الخبراء يقولون، إن حجم الإمدادات الأولية التي ستُنقل عبر هذا الخط، لن تحل أزمة الإمدادات، لأن إنتاج “غازبروم” محدود حالياً والتدفقات الأولية عبر “نورد ستريم 2” سيقابلها على الأرجح انخفاض في التدفقات عبر أوكرانيا، مع إعطاء الأولوية لملء المستودعات المستنفدة داخل أوروبا. ومع اقتراب فصل الشتاء، يبلغ مخزون القارة من الغاز الطبيعي 75% من المستوى الذي كان عليه في هذا الوقت من العام الماضي، وهو أدنى مستوى في مثل هذه الفترة من العام منذ 2013.
لا شك أن هذا سيؤدي إلى رفع الأسعار وتأجيج المخاوف بشأن النقص في الوقود قد يؤدي إلى انقطاع التيار الكهربائي خلال الشهور القادمة عن دول عديدة في أوروبا، وربما تجعل هذه الأزمة الخانقة دول أوربا، خاصة الدول الصناعية الكبرى فيها، تفكر في الخروج عن هيمنة الولايات المتحدة، وتتجه بشراكتها نحو روسيا، التي تُعد من أكبر الدول المنتجة للطاقة في العالم، بشقيها البترول والغاز الطبيعي، وإلا في دول أوربا ستدفع ثمنًا باهظًا لهذه الشراكة التي باتت تضر أكثر مما تنفع.
كاتب من الإمارات