محمد خليفة
هناك شخصيات في التاريخ لعبت أدوراً كبيرة في رسم المستقبل لمئات السنين القادمة، ومن هذه الشخصيات الملكة الانجليزية إليزابث الأولى التي حكمت بريطانيا وأيرلندا من عام 1558 حتى سنة 1603، وقد حكمت هذه الملكة في فترة تاريخية مهمة، فقد كان الإصلاح الديني قد بدأ في أوروبا، وقد سار والدها الملك هنري الثامن في هذا الإصلاح، وقطع الصلة مع الكنيسة الرومانية في روما، ومنع إرسال الأموال لها، وقام هو بتعيين القساوسة والشمامسة، ما أدى إلى استعار غضب الكنيسة عليه وكانت الامبراطورية الرومانية المقدسة التي كان مركزها في النمسا ويرأسها عائلة هابسبورغ، قد جعلت نفسها حامية الكاثوليكية في أوروبا، وكانت عائلة هابسبورغ قد صاهرت الثنائي الإسباني فرديناند وإيزابيلا، حيث تزوج فيليب هابسبورغ ولي عهد ماكسيمليان الأول امبراطور الدولة الرومانية المقدسة من جوانا ابنة الثنائي الأسباني، وأنجب منها شارل الخامس أو شارلكان الذي حكم امبراطورية واسعة الأرجاء تمتد في ثلاث قارات ولا تغيب عنها الشمس، وكان شاركان حامياً للكاثوليكية ولاحق الأمراء المتمردين في شمال أوروبا وتحديداً في ألمانيا، وكان الملك الإنجليزي هنري الثامن قد استغل الإصلاح الديني فوضع اليد على جميع الكنائس والأديرة في مملكته، ومنع إرسال المال إلى روما، فغضب عليه المجمع المسكوني، وأرادوا قتله، لكنهم لم يوفقوا إلى طريقة لذلك، فمات لكن البروتستانتية لم ترسخ في بريطانيا في عهد من جاء بعده من أولاده، حتى تولت الحكم ابنته الصغرى إليزابيث عام 1558، التي ورثت إباها وتبنت البروتستانية. وكانت السفن الأسبانية تأتي من أمريكا محملة بالذهب والفضة وسائر أنواع المعادن والمنتجات الفاخرة، فراحت إليزابيث تدفع البحارة في جيشها ليهاجموا تلك السفن في عرض البحر، ويستولوا عليها. وقد تفاقم الضرر الإنجليزي مع مرور الوقت، فبين عامي 1585 و1586 قام القائد البحري الإنجليزي فرنسيس دريك حملة بحرية ضد الموانئ والسفن الإسبانية التي تقع على شاطئ البحر الكاريبي، وتلا ذلك قيامه بغارة ناجحة على قادس في إقليم الأندلس جنوب غرب أسبانيا، ودمر سفن الأسطول الإسبانية المعدة لغزو إنجلترا. وعندما سمع الملك فيليب الثاني الذي كان قد ورث أباه شارلكان في كره البروتستانتية والدفاع عن كنيسة روما، قرر شن الحرب على إنجلترا، فأمر بجمع كل السفن القريبة، حيث تم إحضار 127 سفينة، وجعلها بقيادة دون ميدينا، سيدونا. وأطلق على الأسطول “الأرمادا” أي الذي لا يقهر، وانطلق الأسطول نحو بريطانيا، فلاقاه الأسطول البريطاني في بحر الشمال وسانده الأسطول الهولندي الذي كان يتألف من 200 سفينة. وحدثت معركة بحرية بين الجانبين فقد الأسبان فيها 50 سفينة، بالمقارنة بسبع سفن فقط من الطرف الإنجليزي. وباقي الأسطول انهزم عائداً إلى أسبانيا، فاحتفلت بريطانيا بالنصر وانفتحت أمامها أبواب قارة أمريكا، فبدأت ترسل المستعمرين إلى شمال القارة حتى تمكنت من إقامة مستعمرات عديدة كانت نواة لقيام الولايات المتحدة التي هي القوة العالمية العظمى في الوقت الراهن، وهكذا كان النصر على الأرمادا بداية لولادة تاريخ جديد في العالم، فلو لم تقف إليزابيث موقف التحدي ولو لم تتجرأ على مواجهة أعظم امبراطورية في العالم في ذلك الوقت، لما كانت أحرزت النصر وكتبت التاريخ الحديث بحروف إنجليزية بارزة.
كاتب من الإمارات