محمد خليفة
حقق العلم قفزات كبيرة في مجال اسكشاف الكون وسبر أغواره من خلال عمليات الرصد التي يتم إجراؤها عبر المحطة الفضائية الدولية أو عبر المناظير الأرضية والفضائية مثل منظار هابل الأمريكي الذي تم إطلاقه عام 1990 إلى مداره الأرضي المنخفض خارج الغلاف الجوي على بعد 593 كيلومتراً، وأمد الفلكيين بأوضح وأفضل رؤية للكون بعد طول معاناتهم من المناظير الأرضية، وسمي هذا المنظار على اسم الفلكي الشهير إدوين هابل.
ورغم النتائج الكبيرة التي حققها هذا المنظار، حيث إنه كشف عن وجود أكثر من 100 مليار مجرة في الكون، وأعطانا فكرة عن نشأتنا وعن مستقبلنا. لكنه لم يكن قادراً على تقديم صورة عن كيفية نشأة الكون وتفسير معطيات الإزاحة الحمراء، والتي تعد مهمة جداً لفهم كيفية نشأة الكون. ولذلك اندفعت الولايات المتحدة إلى التفكير في إرسال منظار آخر يكون مجهزاً بتقنيات أعلى من أجل تقديم صورة أوضح وأفضل للكواكب والمجرات والسدم والثقوب السوداء، وتلاقت رغبتها مع الاتحاد الأوروبي وكندا، فتم اتفاق الشركاء الثلاثة على بناء منظار جديد وبدأ التطوير عام 1996، وكان مخططاً أن يكون الإطلاق سنة 2007، وكانت ميزانيته تبلغ 500 مليون دولار، لكن ما إن بدأ المشروع حتى خضع للكثير من عمليات التغيير بناء على اقتراح العلماء، وقد تم الانتهاء من بنائه عام 2016 وارتفعت تكلفته حتى بلغت تسعة مليار وسبعمائة مليون دولار، وفي 25 ديسمبر 2021. وضع الصاروخ “أريان 5” بنجاح، المنظار الفضائي “جيمس ويب”، في المسار نحو مداره النهائي الذي سيبلغه في غضون شهر، والذي سيكون على بعد 1,5 مليون كيلومتراً من الأرض.
وهي نقطة بعيدة جداً مما سيجعل من الصعب القيام بأية عملبيات صيانة قد يحتاجها، ولهذا فأن المنظار مصمم كي يعمل حتى يتوقف من تلقاء نفسه. لكنه في ذلك المكان سيكون قريباً من الشمس، كي يقدم صورة واضحة عنها، كما سيكون على مشارف المجرات البعيدة من أجل أن يلتقط لها صوراً واضحة تساعد مراكز البحث التي تتلقى صوره في فهم أفضل لأعماق الكون. وقد تم تجميع المنظار في منشآت شركة نورثروب جرومان في كاليفورنيا. وتتكون المرآة الأساسية له من 18 قطعة من المرايا سداسية الأضلاع المصنوعة من معدن البيرليوم المطلي بالذهب، وتتحد تلك المرايا لتكوّن مرآة قطرها 6,5 متراً، ويمثل تجميع المنظار، وأدواته العلمية، ودرعه الشمسي، والمركبة الفضائية، إنجازاً كبيراً من قبل فريق العمل بأكمله والذي ضم آلاف الأفراد، في وكالة ناسا، ووكالة الفضاء الأوروبية، ووكالة الفضاء الكندية، وشركة نورثروب جرومان .
وسوف يسمح منظار ويب، برصد الأشعة الحمراء المنبعثة من المجرّات القديمة البعيدة “قبل 13 مليار سنة”، وبالتالي الإجابة على الأسئلة التي لاتزال تحيّر العلماء. وسوف يبدأ المنظار عمله بمجرد وضعه في مداره في نقطة لاغرانج والتي هي مكان في الفضاء حيث تجتمع قوى جاذبية جسمين كبيرين، مثل الأرض والشمس أو الأرض والقمر، وتعادل قوة الطرد المركزي لجسم ثالث أصغر بكثير. ويخلق تفاعل هذه القوى نقطة توازن حيث يمكن أن تتوقف مركبة فضائية لأخذ ملاحظات.
وهذه النقطة سميت باسم “جوزيف لويس لاغرانج” وهو عالم رياضيات في القرن الثامن عشر. والواقع أن التكلفة الباهظة لمنظار ويب توحي بأنه مشروع استراتيجي عالي المستوى للدول التي تقف وراءه، فالبحث عن الثروة في الفضاء الخارجي بات حاجة ملحة لتلك الدول التي ترى أن موارد الأرض لم تعد تكفي في ظل المنافسة الحامية من مختلف الدول والشعوب، وبات الاستثمار في الفضاء الخارجي هو الملاذ الآمن والأكثر موثوقية في ظل تقارير مبدئية تفيد بوجود كواكب من الألماس، وكواكب أخرى من المعادن النادرة والتي تشكل قلب الصناعات ذات التقنية العالية، وإذا تمكن الغرب من تحقيق سبق علمي واضح في الفضاء فسوف يكون ذلك بمثابة رافعة إنقاذ له في وجه القوى الأخرى، كما كان اكتشاف قارة أمريكا مطلع القرن السادس عشر رافعة إنقاذ لأوروبا في وجه الدولة العثمانية، حيث ساعدت الثروات التي تم الحصول عليها من تلك القارة في ارتفاع شأن أوروبا واضمحلال شأن الدولة العثمانية، وأيضاً فأن أي سبق علمي حقيقي قد يتم التوصل إليه في الفضاء فسوف تكون نتائجه مبهرة على الأرض، وسوف ننتظر لنرى ما ستؤول إليه وقائع منظار ويب في القادم من الأيام والشهور.
كاتب من الإمارات