أخبار عاجلة

محمد قيصر يكتب: ” أنا” وبعدي ” الطوفان”.. (تتمة)

محمد قيصر (*)

في بداية الجزء الثاني من مقال” أنا” وبعدي ” الطوفان” ، لا بأس أن نرجع للقرآن الكريم من باب الاستئناس للتذكير بقصة سيدنا موسى عليه السلام الذي تم إبعاده عن ” الأم” إلى ” اليم” في بلاغة لغوية عجيبة حتى يشتد عضده ويتهيأ للواقع الحقيقي الذي ينتظره. فارتباط الطفل بأمه و عدم تجاوزه لهذه المرحلة يجعله يعيش وضع ” الخيال” الفردي كما أن عدم الإحتكاك بالواقع الاجتماعي الذي يجسده الاب ثم المجتمع يجعله يتوهم التفوق المطلق أو النرجسية الطفولية . فما علاقة هذه الأخيرة بالطوفان؟

يعد الطوفان ظاهرة كونية تناولتها الكتب السماوية و الأساطير والروايات. وهي تتحدث عن قصة سيدنا نوح عليه السلام وقيامه بصناعة سفينة لم يعرف قومه المغزى من عمله إلا بعد غضب البحر وهيجانه. نجا من الحادث من صعد السفينة مع النبي فيما لقي حتفه من بقي يواجه البحر مباشرة. وبالقدر الذي عبرت فيه مختلف المحكيات عن جبروت البحر بالقدر الذي أشارت فيه إلى أهمية السفينة كطوق للنجاة من الظواهر الطبيعية الأكثر فتكا في التاريخ.

تكوّن إذن المخيال الجمعي من أفكار إزاء البحر تناقلتها الأجيال أبا عن جد حتى وصلت إلينا وهي ما أصبح يسمى باللاوعي الجمعي . وهو الذي يمثل مجموع خبرات البشرية و مستودعا لتجارب الأجداد منذ آلاف السنين والتي تكاد تكون كلها لا واعية. نشأ لدى البشرية تصور عام عن البحر الذي يشكل ثلثي مساحة الكرة الأرضية . وهذه الصور تختلف بين عاشق ملهم يرى أن الأولى هو تسمية الكرة الأرضية بالكرة البحرية لكبر المساحة وأهمية البحر وبين خائف يتملكه الذعر من هذا الأخير و يهابه. بالمقابل ، أخذت السفينة بعدا أسطوريا تجلى في مأمن الخلاص من أصعب الأمور تعقيدا.

ويشير التحليل النفسي أن الشكل الذي تصنع به السفن بالإضافة إلى الهندسة البحرية التي تطورت حديثا يحتوي على الجانب اللاواعي المتأصل في الإنسان منذ القدم و المتمثل في الأم الحاضنة . ذلك أن السفينة تعد بمثابة الأم في احتضان أطفالها إذا ما افترضنا أن هؤلاء يعتبرون كائنات بحرية سلفا وكما ذكرت في الجزء الأول من هذا المقال. ولا عيب إذا أطلقنا العنان لمخيلتنا و رأينا شكل السفينة يشبه بطن الأم و هي حامل. ولا بأس أن نجد البحارة يتحملون حركات البحر الأفقية أو تمايل السفينة والتي تشبه هدهدة الأم لرضيعها على عكس تأرجح السفينة العمودي أو حركات الغوص التي لا يطيقونها البتة.

يساهم الضمير الجمعي في تكوين المخيلة الجماعية و الفردية للأشخاص. ومنه نجد الأساطير و الروايات التي تتداولها الشعوب في توجيه سلوك الفرد نحو اختيار مهنة البحر. ذلك أن الفرد يشعر بأمان أكثر و هو على متن السفينة التي أنقذت البشرية من الضياع في حادثة الطوفان.
على المستوى الفردي، يقابل المخيال الجمعي مكون ” الهو” أو النظام الأصلي للشخصية و الذي يتكون مما هو موروث سلفا و كذلك من الغرائز و التجارب الداخلية منذ الولادة ، كما يمكن أن يشتغل وفق مبدأ اللذة و الشعور بالمتعة أو بالألم دون الاحتكام إلى الواقع الخارجي. وهذا الواقع الخارجي يفرض تطور مكون آخر للشخصية يسمى ” الأنا” والذي يحدد طريقة التعامل بين ما هو داخلي و بين الحقيقة الخارجية بل يقوم باختيار الواقع المناسب لإشباع اللذة. وهناك ” الأنا الأعلى ” أو القيم الأخلاقية التي تمثل الجانب المثالي للشخصية انطلاقا من المجتمع و يسعى إلى إقناع الأنا بضبط دوافع الهو و اختيار الأهداف الأخلاقية بدل الأهداف الواقعية.

من جهة أخرى، يتشكل الهو من الخبرة الداخلية للفرد دون أي معرفة بالواقع الخارجي، فيعتمد بالأساس على علاقة الأم بصغيرها لأنها تعتبر أساس عالمه الداخلي كما أنه ينقسم إلى ” دوافع الحياة” و “دوافع الموت”. فالأولى تعتبر بنائية لتلبية الحاجيات البيولوجية و الجنسية و الوجدانية. أما الثانية فتتخذ شكلا تدميريا وعدائيا نحو الذات و نحو الآخرين من أجل التخلص من الضغط الداخلي. وانسياق الفرد وراء دوافع الحياة أو الموت يرجع إلى علاقته بأمه وكيفية تربيتها لابنها في خفض التوتر و انفتاحه نحو العالم الخارجي.كما أن هذه العلاقة السببية لا تمنع تعاقب هذه الدوافع بشقيها على الفرد في اختيارته و في توازن حياته.

إن الشخص العادي قد يرفض نهائيا مزاولة مهنة البحر لأنه سيكون بعيدا عن الحياة الاجتماعية العادية بالإضافة إلى ارتباطه بالحياة العائلية. أما الحياة البحرية فهي غير اجتماعية و تفرض عيشا غريبا وانزواء اجتماعيا كبيرا و بالتالي فهي تستهدف الفرد نفسه ككائن اجتماعي بطبعه.
وقد ذكرت الإخصائية النفسية كريستيل فيراتي في كتابها : ” الرغبة في السفر و الوحدة عند البحارة: أمثلة من الأدب القديم ” أن البحارة يختارون هذه المهنة لأسباب لاشعورية لها علاقة بالطفولة من خلال نوع الارتباط بالأم في المرحلة ما قبل الأوديبية ( عمر ما قبل ثلاث سنوات) و بالحضور الفعلي للأب لفطام الإبن عن الأم في المرحلة الأوديبية ( بين ثلاث و خمس سنوات) .

وتضيف الأخصائية النفسية أن البحر يعمل على إعادة الدفء للنقص العاطفي الحاصل لدى البحار في هذه المراحل ويقوم بتحيينه من جديد من أجل التغلب عليه لا شعوريا عن طريق البطولات التي يقوم بها البحار والمغامرات الجريئة التي يلقاها في سفره. ذلك أن هذه التحديات تجعله يعيش الواقع الحقيقي الذي لم يسمح له أن يعيشه في الطفولة.

وإذا كانت دوافع الحياة تمثل الحب و الجنس و اللذة في لا شعور الفرد، فإن دوافع الموت عكس ذلك تبرز مكامن العداء و التدمير والعنف. وحسب فرويد، فهذه الأخيرة تقوم بإعادة و استذكار مراحل عصيبة سابقة من حياة الطفولة من أجل التغلب عليها. لا شك أن واقع العمل البحري صعب للغاية عكس ما يتخيله من لم يجربه وهو يتنافى مع عناصر الحب و الجنس واللذة التي يبحث عنها الفرد في حياته خصوصا الاجتماعية. وبهذا الخصوص يشير فيكتور هيجو في كتابه “عمال البحر” إلى أن :” الذي ينفذ إلى البحر لا ينفذ إلى المرأة” في إشارة إلى صعوبة الحياة الزوجية أو العاطفية و كذلك الحميمية والجنسية.

وبالتالي فإن دوافع الموت هي أكثر سببا في دفع رجال البحر لهذا الاختيار الصعب أي أن هناك عنفا و عداءا نحو الذات و نحو الآخر من خلال هذا الاختيار. وقد يتحول ذلك إلى درجات أكثر خطورة من خلال بلوغ درجة المازوشية نحو الذات والتي تعتبر وجها آخر من السادية نحو الآخر في المعاملة، و لا غرابة أن نرى حجم الخلاف بين رجال البحر رغم قلة عددهم و أهمية تكثلهم من أجل مصيرهم المشترك، ومع ذلك فهم في صراع دائم بسبب الوضعية النفسية التي كانت وراء اختيارهم لهذا المجال ودوافع الموت التي قادتهم لهذه المهنة.

من خلال هذه التعريفات المقتضبة يمكن تحليل شخصية رجال البحر و إسقاط هذه النظريات المذكورة على اختياراتنا اللاشعورية و المقدرة سلفا. كما يمكن تفسير السلوكيات المنحرفة لبعض إخواننا البحارة في مناصب مختلفة و الذين يجدون متعة في الاجتهاد على حساب مصلحة زملائهم في العمل، فإن عزاءنا في هذا السلوك الشاذ هو أنه كان موجها بالدرجة الأولى لأمهم الحقيقية و استحضارا لماضيهم معها على رأي المثل الشعبي : ” إذا جاء الطوفان وضعت أمي تحت قدمي”. وهذا السلوك البنيوي يجب أن نراه كحالة مرضية مستديمة يجب مواجهتها بحزم أو استئصالها جذريا.

(*) الكاتب العام للنقابة الوطنية لضباط الملاحة التجارية

شاهد أيضاً

تحالف Renault – Nissan – Mitsubishi يعلن تعزيز إنتاج السيارات الكهربائية في مصنع Ampere دوواي ويكشف عن طرازات جديدة للسوق الأوروبية

تواصل تحالف Renault Group – Nissan – Mitsubishi تنفيذ مشاريعه المشتركة داخل مصنع Ampere في …