أخبار عاجلة

طنيش يكتب: التاريخانيات والحفريات الأنثربولوجية

ذ. أحمد طنيش (*)

 

في المهرجان الوطني لظاهرة المجموعات، نستحضر هذه التاريخانيات والحفريات الأنثربولوجية المترجمة عبر عدة تعابير وضمنها الأنماط الغنائية الشبيهة والمتزامنة في المولد والمنهج مع ظاهرة المجموعات الغنائية المغربية، والتي لها كل هذه المرجعيات، وبذلك فالمهرجان الوطني لظاهرة المجموعات للحي المحمدي هو أكبر من فسحة صيف ولقاء وفرجة، ونبش الذاكرة وتوثيق الشفاهي وتداوله وتحقيقه، إنه تواصل حي وحيوي مع الموروث الذي تسكننا جينالوجيته، ويعود بنا للأصول والجذور، وهنا نستحضر باقي الأنماط التي تلتقي ميلادا وتطورا وشيوعا مع ظاهرة المجموعات الغنائية الغيوانية، ونبدأ بالتروبادور الذي يشار في تاريخ الفن أن أصل هذا النوع الموسيقي ومولده أندلسي، والاسم مشتق من طرب “تروبا” وكلمة “دور”.

كاد الإجماع أن يكون تاماً بين المؤرخين وعلماء الاجتماع على أن فتح العرب للأندلس كان أهم حدث حضاري اجتماعي وقع في العصور الوسطى، استفادت منه كل الشعوب الأوروبية بمختلف ألوان المعرفة من علوم وفنون وآداب، عبر زيارة الوفود للاستفادة من فنون المرحلة مع زرياب الذي كانت له مدرسة في قرطبة تستقبل البعثات من أوروبا واتسع أمام أفراد هذه الوفود المجال لتعلم هذه الفنون واستيعابها في دراسة وافية، والعودة إلى أوطنها متأثرة ومؤثرة، وبذلك ظهرت في القرن الحادي عشر “جماعات التروبادور” بجنوب فرنسا ثم في ألمانيا، وهي جماعات تتغنى بأوزان جديدة من الشعر استمدوها من ألوان الموشحات والأزجال الأندلسية، وألحان هي صدى التأثير وقد تشابهت في أغراضها مع الموشحات وفي طليعتها الغزل والتغني بجمال الطبيعة والمدح والحماسة. هو إرث نجده في مسكون فننا المغربي بكل أنماطه الحاضر فيما وراء النغمات والمقامات والتوزيع والحس الفني الذي يمثل رؤية كونية لكون الموسيقى لغة عالمية لكل البشرية، وقد ساهمت فيها كل الشعوب..
الموسيقى منذ أن نشأت كظاهرة فهي تخاطب الفطرة الطبيعية حتى وصلت إلى ما وصلت إليه من العلم والتقنية والإبداع. بالمغرب أنبأت ظاهرة المجموعات بالشيء الكثير، أنبأت بإحياء الغناء الجماعي بزخم كبير والذي يضم تلاقح الثقافات وأصوات الشعوب لكون المغرب استقرت به إثنيات تمثل العالم وسكان أصليون منفتحون على العالم، وأنبأت ظاهرة المجموعات بالإصرار على السير في تشييد عالم تتناغم فيه الأشياء والأقوال والناس، وأنبأت به الخطابات الجديدة، فكان نص ظاهرة المجموعات الغنائية متعددا وجامعا. متعددا من حيث التأويلات والاسقاطات، ومتعددا من حيث انكشاف النص الغيواني عن النصوص المستمدة من المكون الثقافي الشعبي والتراثي المشبع بالنغمات المحلية المرتبطة بمرجعية الهوية، وباقي النغمات المتعددة المصادر والجغرافيات وبذلك فالنمط الغنائي للمجموعات قريب من فن الدراويش والصوفيين والتروبادور، القريبون من فن المسرح الذي كان يعتمد في تاريخه على الكورس أو غناء الخشبة ومعظم باكورة أغاني هذه المجموعات كانت انطلاقتها المسرح لأن الفنانون في النمط المجموعاتي ليسوا مغنيين بالمعنى الكلاسيكي، بل هم ممثلون يغنون أو قل يؤدون مشاهد تعبيرية مغناة..
انطلقت في السبعينات من القرن الماضي المجموعات المؤسسة التي اتسمت بالظاهرة، كمثيلاتها في العالم، في البدء كانت محاولة التأصيل للنمط الغيواني الشعبي المغربي إحياء التراث الشفهي بموسيقى لها طابع مختلف، كما تجارب العالم، وسكبت عليها المجموعات حرارة التلاحم مع الجماهير كما فعلت تجارب العالم وتأثرت أغنية المجموعات بالمحيط العام للأغنية في العالم، الشعبية منها بالخصوص والتي جاءت في سياق تصاعدي كجواب على ضرورة ملء الأغنية بالإرث الإنساني.
ونصل إلى”الراب” الذي هو نوع من أنواع الغناء وأحد فروع ثقافة “الهيب هوب” الرئيسية، وهو التحدث وترديد الأغنية بقافية معينة، وهو أيضا تسليم القوافي والتلاعب بالألفاظ حتى تتماشى مع القافية دون الالتزام بلحن معين، كما أن للراب والهيب هوب ظواهر ومجموعات أسست للجربة وطورتها، للراب خصوصية فينة كونه يؤدى بوجود الإيقاع أو بدونه (بما يعرف بالفري ستايل) وبشكل عام فإن صوت المغني أو المغنية ليس هو المعيار إنما نبضات الموسيقى نفسها وكلمات الأغنية، وهو تشابه مشهود في نمط المجموعات الغنائية المغربية.
نشأ نمط “الراب” كما “الهيب هوب” منذ عام 1970 في نيويورك تحديداً بحيّ البرونكس ولم يعرف إلاّ في عام 1979 جرّاء عائق الفقر الذّي لم يساعد في انتشار هذه الثقافة بسرعة وقد كان كرد فعل لما تعرضوا له من عنصرية وكنوع من التعبير عن الذات ضد المشاكل المجتمعية مثل الفقر والبطالة والعنصرية والظلم ليصبح ثقافة وفنا مستقلا فيما بعد. للهيب هوب علاقة مع موسيقى “الجاز” التي تعتبر من الأعمدة اللي قام عليها “الراب”. في الفترة ما بين أواخر الثمانينات وحتى منتصف التسعينات، شهدت موسيقى “الراب” تغييرا جوهريا في اتجاه أسلوب الراب والانحراف عن الأشكال القديمة حيث أنه في الثمانينات كان “الراب” في الغالب يتجه إلى التراكيب ومركبات القافية البسيطة، اما التسعينيات فقد حررت “الراب” من هذه الأساسيات وخلقت أنماطا أكثر كثافة وتعقيدا، ظاهرة المجموعات ظهرت بدورها بالضبط بدء منذ سنة 1970، وانطلقت من حي كما باقي الظواهر العالمية وهذا الحي يشبه واقعه واقع تلك الأحياء والتي لها نفس الوشيجة والواقع الاجتماعي وظروف الحياة والعلاقات، من تم واكبت ظاهرة المجموعات الغنائية المغربية كما مثيلها في العالم المراحل التحولية في الشكل والمضمون ولكن من داخل التصور لمواكبة المستجدات وهذا سر آخر من أسرار استمرارية ظاهرة المجموعات..
انتشرت في السنوات الأخيرة ثقافة “الهيب هوب” في جميع أنحاء العالم بين فئة الشباب وخصوصاً من له أصول أفريقية فأنتشر في أوروبا وإفريقيا وآسيا وكان أحد أهم الأسباب نفوذ الثقافة الأميركية في جميع أنحاء العالم من خلال السينما ووسائل الإعلام المختلفة كما أن “الهيب هوب” يعطي الشباب حرية في التعبير ليست موجودة في أي فن آخر وكذلك السهولة بحيث يستطيع أي “رابر” كتابة كلمات ووضع موسيقى عليها من خلال برامج كمبيوتر جاهزة، هذا النمط الغنائي تأثر به الشباب عبر ربوع الوطن المغربي وعبر العالم العربي وبإفريقيا وبعض الدول الغربية، كما الهيب هوب والراب، ومورس هذا النمط بتوزيع جديد يواكب أحدث التطورات الموسيقية، كما أن تجربة المجموعات تعد مادة فنية لمجموعة من البرامج الوثائقية عبر العالم، ونجد تجربتنا الغيوانية والمجموعاتية هي الأخرى وجدت صداها في السينما المغربية والعالمية وتماجزت مع باقي الفنون.

 

(*) المسؤول الإعلامي للمهرجان

 

 

شاهد أيضاً

توقيع إصدارات جديدة في مهرجان سيدي قاسم يعزز حضور النقد السينمائي بالمغرب

يشهد مهرجان سيدي قاسم للفيلم المغربي القصير، في دورته الخامسة والعشرين المزمع تنظيمها من 7 …