أخبار عاجلة

خليفة يكتب: هل تخرج ألمانيا من الاتحاد الأوروبي؟

محمد خليفة (*)

ولدت ألمانيا مطوقة، لأنها تقع في شمال أوروبا، وهي دولة حبيسة ليس لها امتدادات على البحار المفتوحة؛ بل تطل على بحر البلطيق، وبحر الشمال الذي تسيطر عليه بريطانيا، ولهذا السبب لم تنجح ألمانيا في تكوين إمبراطورية عالمية كما فعلت دول أخرى مثل: البرتغال وإسبانيا وهولندا وبريطانيا وفرنسا، بل ظلت متقوقعة داخل حدودها، رغم أنها كبيرة بالمساحة والسكان مقارنة بغيرها من أمم أوروبا.

لقد خاضت الحربين العالميتين بعزم وإصرار على النجاح، لكنها فشلت في الاثنتين، وكانت هزيمتها في الثانية نكبة كبيرة لها؛ لأنها خسرت نحو 6 ملايين من سكانها مع دمار شمل أكثر من 70 في المئة من عمرانها، كما خضعت لشروط المنتصرين فصارت تابعة للولايات المتحدة، حتى إنها أصبحت أخلص الحلفاء الأوروبيين لها، وفي الوقت عينه حرصت الولايات المتحدة على النهوض بالشطر الغربي منها، قبل الوحدة، ولولا هذا الدعم لما أصبحت ألمانيا اليوم رابع قوة اقتصادية عالمية بعد الولايات المتحدة والصين واليابان.

غير أن التراجع الأمريكي العالمي قد وضع ألمانيا تحديداً أمام مصير مجهول، لأن النخب السياسية الحاكمة فيها، وعلى رأسها حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي، والحزب الاشتراكي الديمقراطي، قد جاءت نتاجاً للتسوية التي أقامتها الولايات المتحدة لألمانيا ما بعد الحرب. وقد تشارك هذان الحزبان حكم هذه الدولة منذ ذلك الوقت إلى اليوم. وكانت الأمور متوازنة في وجود قطبين، حيث حافظت الولايات المتحدة على دعم حلفائها الغربيين، لكن مع مرور الوقت، وبروز الولايات المتحدة كقطب أوحد، أصبحت السياسات الأمريكية، خاصة تجاه روسيا والصين، عبئاً على الحلفاء الغربيين.

لقد دفعت ألمانيا ثمناً باهظاً بعد تماهيها مع السياسة الأمريكية في فرض عقوبات اقتصادية على روسيا، رغم استفادتها من الغاز الروسي، فقد عقدت المستشارة الألمانية السابقة ميركل اتفاقاً مع الرئيس الروسي لتزويد ألمانيا بالغاز عبر السيل الشمالي، لكن بعد فوز الحزب الاشتراكي الديمقراطي بزعامة أولاف شولتز في الانتخابات، وتقدمه على مختلف الأحزاب الأخرى، لا سيما حزب الاتحاد المسيحي الديمقراطي، فإن السفينة الألمانية ستتابع دورانها، في سبيل الوصول إلى سياسة جديدة لم تتبلور حتى الآن وإن كانت إرهاصاتها توحي بالتوجه شرقاً، نحو روسيا الشريك التجاري، وربما الصين العملاق الاقتصادي القادم.

إن ألمانيا، ومثلها دول أوروبا، لا تستطيع الاستمرار من دون أن تضمن مصادر الطاقة لديها، لأنها في الأساس فقيرة في النفط والغاز، ولديها كثافة سكانية عالية، كما أنها تملك قدرات اقتصادية هائلة، وليس لها نفوذ في دول العالم مثل بريطانيا وفرنسا، لكي تحصل على إمدادات مستقرة من الطاقة، فإن ألمانيا بدأت تظهر فيها هزات ارتدادية يمكن أن تطول الاتحاد الأوروبي بالكامل.

وحالياً هناك مناقشات تجري ما بين بعض الأحزاب الألمانية حول جدوى البقاء في الاتحاد الأوروبي، حيث إن ألمانيا الآن لا تستفيد اقتصادياً من عضويتها في الاتحاد، بل صار الاتحاد باتفاقياته الملزمة عبئاً عليها، والأفضل لها هو الخروج منه مثل ما فعلت بريطانيا.

إن مغادرة ألمانيا، وهي الدولة الأهم، من الاتحاد يشكل خسارة كبيرة للغرب بشكل عام والاتحاد الأوروبي على وجه الخصوص، وخروجها، وهي قاطرة الاتحاد، ربما يشجع دولاً أخرى على الخروج، ما يعني انهيار الاتحاد الأوروبي، وانتهاء منطقة اليورو، ووضع خارطة اقتصادية جديدة لأوروبا.

لقد أصبحت ألمانيا مكبلة بقرارات الاتحاد الأوروبي، الذي أصبح عبئاً عليها سياسياً واقتصادياً، فألمانيا لا تستطيع عقد اتفاقات اقتصادية منفردة مع الصين أو روسيا لأنها مضطرة للالتزام بقرارات الاتحاد، لكنها عندما تخرج منه فإنها تستطيع تغيير سياساتها الاقتصادية تجاه روسيا والصين، ما يعني أن تتخلى عن سياسة العقوبات، وأن تدعم إنهاء الحرب بما يحفظ مصالح موسكو الاستراتيجية، ومصالح ألمانيا في ذات الوقت.

وأيضاً فإن الاتحاد الأوروبي يعاني اليوم أزمة حادة جراء نقص الغاز، حيث أصبح الألف متر مكعب منه بألفي دولار، ولا توجد مصادر كثيرة لهذه السلعة الحيوية، وتحوز روسيا المجاورة أكبر مخزونات الغاز في العالم، وهي تفتح صدرها لأوروبا من أجل قلب المعادلة ضد الولايات المتحدة، وهناك دول أوروبية ملتزمة بالسياسة الأمريكية، لكن دولة مثل ألمانيا لا تستطيع أن تحافظ على التزاماتها الأطلسية، بل هي مجبرة على الاتجاه نحو روسيا، العدو السابق، والخصم الحالي لحلف الناتو ومن ضمنه ألمانيا.

لقد نجحت أنجيلا ميركل في حرف السفينة الألمانية نحو روسيا، رغماً عن الإرادة الأمريكية، وهي الآن تترك لأولاف شولتز مهمة السير في هذا الطريق الوعر، الذي لا بد منه، لأن به نجاة ألمانيا لمعالجة التضخم الذي يعانيه اقتصادها.

لا شك أن التاريخ لا يقف عند حدود معينة، بل هو في حركة دائبة نحو المستقبل، وبقاء الدول قوية رهن ببقاء قدراتها الاقتصادية، فإذا فقدت هذه القدرات فإنها تفقد قوتها العسكرية، وهذا ما يحدث اليوم للولايات المتحدة التي يتآكل اقتصادها ويتهاوى مجدها، وهذا دليل دامغ على ظهور مرحلة جديدة في العالم، لن تكون فيها الولايات المتحدة قوة عظمى وحيدة.

(*) إعلامي وكاتب إماراتي، يشغل منصب المستشار الإعلامي لنائب رئيس مجلس الوزراء في الإمارات. نشر عدداً من المؤلفات في القصة والرواية والتاريخ. وكان عضو اللجنة الدائمة للإعلام العربي في جامعة الدول العربية، وعضو المجموعة العربية والشرق أوسطية لعلوم الفضاء في الولايات المتحدة الأمريكية.

شاهد أيضاً

محمد خليفة يكتب: فرنسا.. والتحولات السياسية

محمد خليفة (*) دخلت فرنسا في مسار تغيير عميق بعد الانتخابات الأخيرة البرلمانية، التي جرت …