محمد خليفة (*)
حذّر مفوض الأمم المتحدة لحقوق الإنسان من أن العالم يقف عند مفترق طرق، ويتجه إلى مستقبل قاتم، على وقع النزاعات والقمع والتضليل الإعلامي. هذا التحذير يأتي في وقت يعيش العالم اليوم وسط متغيرات كبيرة قد تدفع به نحو واقع مختلف عما قد يتخيله البعض، فقد تعمقت الأزمات ووقع الصدام بين القوى العظمى، وتوقف التواصل السياسي بينها، ولاحت، من جراء ذلك، نذر حرب عالمية كبرى.
لقد أدت المواقف العدائية المتبادلة بين الطرفين، إلى اضطراب سلاسل التوريد والإمداد، فعلى سبيل المثال، كانت الموانئ الأوكرانية في البحر الأسود تصدّر، قبل الحرب، 5 ملايين طن من الحبوب شهرياً، وقد توقف كل ذلك، فارتفعت الأسعار خاصة في منطقة اليورو وبريطانيا بشكل كبير لأول مرة منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، وبات من الصعب على ذوي الدخل المحدود أن يعيشوا بشكل طبيعي لأن أسعار المواد الغذائية والاستهلاكية باتت تفوق قدراتهم المالية.
وجاءت الحرب على غزة وإشعال جبهة البحر الأحمر ومضيق باب المندب، لتزيد من تعقيد الأوضاع العالمية ومن زيادة حجم الأزمة الاقتصادية. حيث بدأت أسعار النفط والغاز والسلع الأساسية الأخرى في الارتفاع في السوق الدولية، الأمر الذي سيضاعف من حجم الأزمة القائمة بالفعل. ومع انسداد أفق التسويات السلمية بين القوى العظمى، فإن العالم بات يعيش في قلب الحرب. وقد حذر برنامج الغذاء العالمي في تقرير أصدره في الشهر الماضي، من أن «العالم سيشهد هجرة جماعية، ودولاً غير مستقرة، وأطفالاً وبالغين يتضورون جوعاً خلال السنوات القادمة»، ودعا البرنامج الدول الغنية إلى المسارعة لتقديم المال الضروري لتفادي وقوع الكارثة في العالم. لكن الدول الغنية، وهي دول الغرب عموماً، مشغولة اليوم بالحرب في أوكرانيا.
ومن دون شك، فإن الاستمرار في هذا النزاع الشامل سوف يفاقم من الأزمات، ولن يكون ثمة إمكانية لإعادة الأمن والسكينة إلى العالم، فالمرحلة التي تمر الآن حاسمة ومصيرية، وهي تشبه إلى حد بعيد المرحلة التي سبقت الحرب العالمية الأولى، حيث كان كل قطب من القطبين المتنازعين، آنذاك، يتربص بخصمه، حتى وقع القتال، وكان الميدان هو الفيصل بينهما. واليوم يتربص كل محور بخصمه، ويعمل على خلق الأزمات له والتي تنعكس على باقي العالم، وسوف يبقى الأمر كذلك حتى يقع القتال بينهما أو يتوصلا إلى هدنة طويلة تكون مقدمة لخطة سلام توضح مناطق النفوذ لكل منهما ما يهيئ لتحقيق استقرار طويل الأمد في العالم. كما حدث بعد الحرب العالمية الثانية بين الاتحاد السوفييتي السابق والحلفاء.
ولا يبدو أن هناك أية دلائل لدى الدول المتصارعة اليوم لتجنب التصعيد، بل إنها مستمرة في حشد الجيوش، وصنع المزيد من السلاح الفتاك انتظاراً للمعركة الفاصلة بينها. وربما قد يشهد العالم بدءاً لمعارك بحرية بين تلك الدول من خلال استهداف السفن لكل منها من أجل خلق مصاعب اقتصادية لها، وقد يكون باب المندب منطلقاً لمثل تلك الحرب التي إن حدثت وهو أمر مرجّح، فإنها سترفع من معدلات الفقر والحاجة في العالم، غير أن المجاعة الكبرى قد تحدث في حال وقعت حرب شاملة بين هذه القوى، والتي ستؤدي إلى نشر القتل والدمار على امتداد المعمورة. وهذا سيؤدي إلى انقطاع سلاسل التوريد إلى موت الملايين جوعاً، ولا سيما في المدن الكبرى، غير أن الموت سوف يلاحق الإنسان في كل مكان من جراء انعدام الطعام والدواء والرعاية الصحية.
ولا شك أن ما نشهده اليوم هو مقدمة لغد مؤلم تسقط فيه الأخلاق والمبادئ ويتحول فيه القتل والتخريب إلى سياسة ضرورية، فهل تصحو الضمائر الحرة في الدول الكبرى، فتوقف نزعة العسكرة، لتنعم البشرية بإنجازات العلم التي تحققت أخيراً وبعد أن عاش البشر آلافاً من السنين حياة بسيطة؟ إن إيقاف ذلك الجنون نحو الحرب هو أمر واجب، لأن الحرب لن تكون كما كانت من قبل بالأسلحة البسيطة، بل سوف تكون بالصواريخ والقنابل الذرية وبغيرها من أسلحة الدمار الأخرى، التي قد تدمر دولاً وشعوباً وتمحوها من الوجود. وفي ظل هذا التجاذب الكبير بين القوى الكبرى، فإن التحديات سوف تتواصل في العالم وعلى رأسها التحدي الاقتصادي، وربما تعلن دول فقيرة كثيرة إفلاسها، بسبب ارتفاع أسعار المواد الرئيسية، وبسبب انقطاع المساعدات القادمة من الدول الغنية، وقد نشهد في المستقبل القريب، حدوث هجرات بشرية جماعية طلباً للطعام. وفي العموم، فإن العالم سيتجه نحو مستقبل قاتم وقد يتغير شكله، وبدلاً من الخطط الدولية لجعل العالم خالياً من الفقر عام 2030، فإن ذلك العام قد يشهد موت الملايين جوعاً، وقد يشهد أيضاً موت الضمير العالمي والأمم المتحدة، فالصوت الوحيد في العالم هو صوت القوي أما الضعيف فلا مكان له، وهذا هو قانون الغاب الذي لا يزال يسكن بين حنايا الإنسان الحديث وأخطرها، فهو المصدر الوجودي والذي يكشف عن ألم غير مرئي أو محسوس يعتصر الأشياء إلى درجة يكاد يفقد معها جدوى استمراره داخل هذا العالم.
(*) إعلامي وكاتب إماراتي، يشغل منصب المستشار الإعلامي لنائب رئيس مجلس الوزراء في الإمارات.
نشر عدداً من المؤلفات في القصة والرواية والتاريخ. وكان عضو اللجنة الدائمة للإعلام العربي في جامعة الدول العربية،
وعضو المجموعة العربية والشرق أوسطية لعلوم الفضاء في الولايات المتحدة الأمريكية.