أخبار عاجلة

محمد خليفة يكتب: غرينلاند.. ولغة القوة

محمد خليفة (*)

يمكن القول بصفة عامة: إن التطبيق الفعلي للقوة العسكرية كان ولا يزال، الخيار الأول لجميع القوى العظمى، بيد أن مسار العلاقات الدولية، بعد حربين عالميتين أكلتا الأخضر واليابس، يسير اليوم في اتجاه مغاير تماماً وفق نظرية مكيافيلي، لا وجود للأمن من دون قوة تحميه والقوة والمصالح المادية تشكلان محركاً أساسياً من محركات التاريخ.

اليوم يحاول الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إحياء هذا المبدأ، حين أعلن عن نيته ضم غرينلاند إلى الولايات المتحدة، ما أثار جدلاً واسعاً في أوروبا والعالم، فقد رفضت الدنمارك ذلك -هي تدرس بعناية كيفية الرد- حتى لا تخسر حليفاً بحجم الولايات المتحدة، بينما علق وزير الخارجية الفرنسي جان نويل بارو بأن الاتحاد الأوروبي لن يسمح لأي دولة ب«الاعتداء على حدوده السيادية».
وتقع غرينلاند بين المحيطين المتجمد الشمالي والأطلسي، وهي تابعة جغرافياً لقارة أمريكا الشمالية، لكنها اليوم دولة تتمتع بالاستقلال الذاتي، مع جزر فارو المجاورة لها داخل مملكة الدنمارك، وقد أكدت السلطات الغرينلاندية والدنماركية علناً حق جرينلاند في تقرير المصير، ويدعم العديد من سكان غرينلاند الاستقلال، ويرى الدنماركيون أن الروابط التاريخية مع غرينلاند جزء لا يتجزأ من الهوية الوطنية لبلادهم وقد انضمت غرينلاند إلى الجماعة الأوروبية، كمحافظة إلى جانب الدنمارك، عام 1973، وقد سكن النورسيون الذين قدموا من شمال أمريكا، منذ أقدم العصور، الجزء الجنوبي من تلك البلاد، كما قدم إليها أيضاً الأنويت من آلاسكا، وهم اليوم يمثلون أغلبية السكان، ومن ثم استوطنت فيها شعوب من اسكندنافيا، وبذلك نشأت قومية خاصة في تلك البلاد من تلك العناصر الثلاثة.
ويبلغ عدد الغرينلاديين اليوم نحو سبع وخمسين ألف نسمة. وهم مواطنون أوروبيون، ويتلقون تمويلاً من الاتحاد الأوروبي، ووقعت غرينلاند اتفاقيات تعاون مع الاتحاد الأوروبي وأصبحت في ما بعد إقليماً ذا عضوية خاصة، وشبه مستقل في الاتحاد الأوروبي. ولا تملك غرينلاند جيشاً خاصاً بها، وباعتبارها إقليماً تابعاً للدنمارك، فإن الجيش الدنماركي هو المسؤول عن الدفاع عنها، وتقع الجزيرة ضمن المنطقة التي يشرف عليها حلف الناتو العسكري، كما أن القيادة المشتركة للقطب الشمالي هي الفرع العسكري الدنماركي المسؤول عن غرينلاند ولدى هذه القيادة أربع سفن، وأربع طائرات مروحية، وطائرة دورية بحرية واحدة وستة زلاجات، ويوجد الجيش الدنماركي في مناطق متفرقة من تلك البلاد، مثل نوك وكانجرلوسواك ودانيبورج ومحطة نورد وميسترسفيج وغرونيدال، كما أن لدى هذا الجيش مفرزة اتصال في قاعدة ثول الجوية الأمريكية.
وأعلنت الدنمارك، مؤخراً، أنها ستنفق ملياراً ونصف المليار كرونة لمراقبة غرينلاند، كما أعلنت عن خطط لتقوية وجودها العسكري هناك بمزيد من الأفراد، وسفن الدورية، الطائرات من دون طيار بعيدة المدى وبناء مطار يكون مخصصاً لطائرات «أف 35» الدنماركية، ورغم أن تلك الأرض تعتبر جزءاً من قارة أمريكا، لكنها ارتبطت سياسياً وثقافياً بأوروبا منذ القرون الوسطى، حيث سيطرت عليها مملكة الدنمارك والنرويج التي ظهرت في أواخر القرن الرابع عشر الميلادي وعندما انتهت الحروب النابليونية بهزيمة فرنسا والدول المتحالفة معها مثل «مملكة الدنمارك – النرويج»، انعقدت معاهدة «كيل» عام 1814، والتي بموجبها أجبرت الدنمارك على التنازل عن النرويج لصالح السويد، وظلت لها غرينلاند وجزر فارو في منطقة القطب. وحاولت الولايات المتحدة أن تشتري غرينلاند من الدنمارك كما اشترت آلاسكا من روسيا أواخر القرن التاسع عشر، لأنها كانت تراها منطقة حيوية لأمنها القومي، لكن الدنمارك رفضت بيعها وتمسكت بها. وعندما حدثت الحرب العالمية الثانية خافت الولايات المتحدة أن تتقدم ألمانيا إلى غرينلاند ومن ثم إلى آلاسكا وتحاصرها في منطقة القطب، ولذلك أرسلت جيشها إلى غرينلاند، وبقي هناك بعد الحرب، وأصبحت الدولتان عضوين في تحالف الناتو العسكري.
كما تم إضفاء الطابع الرسمي على الوجود العسكري الأمريكي هناك بموجب اتفاقية عام 1951 الموقعة بين الولايات المتحدة والدنمارك والتي بموجبها قبلت الولايات المتحدة الالتزام القانوني بحماية غرينلاند من أي هجوم خارجي، نظراً لعجز القوات المسلحة الدنماركية عن صد أي اعتداء محتمل، كما سمحت المعاهدة للولايات المتحدة بإقامة قاعدة جوية في منطقة «بيتوفيك، ثول» شمال غرب الجزيرة، حيث يتمركز في تلك القاعدة نحو عشرة آلاف جندي أمريكي، كما يوجد فيها قاذفات استراتيجية قادرة على حمل أسلحة نووية، والقاعدة هي مكان للإنذار الصاروخي وأجهزة استشعار الفضاء.
وخلال ولايته الأولى قال ترامب: إن الولايات المتحدة يمكن أن تشتري غرينلاند، وكان الهدف هو تحصين الجزيرة بشكل أفضل وعاد ترامب الآن من جديد ليعلن أنه عازم على ضم غرينلاند إلى الولايات المتحدة لحفظها من التهديدات الروسية والصينية. ورغم الرفض الدنماركي والأوروبي لكلام ترامب الذي يعتبر غرينلاند بمثابة قضية أمن قومي للولايات المتحدة، فإن انضمامها إلى أمريكا طوعاً أو كرهاً قد يكون مسألة وقت.

(*) إعلامي وكاتب إماراتي، يشغل منصب المستشار الإعلامي لنائب رئيس مجلس الوزراء في الإمارات. نشر عدداً من المؤلفات في القصة والرواية والتاريخ. وكان عضو اللجنة الدائمة للإعلام العربي في جامعة الدول العربية، وعضو المجموعة العربية والشرق أوسطية لعلوم الفضاء في الولايات المتحدة الأمريكية.

شاهد أيضاً

العدالة الانتقالية وتجارب المغرب والأرجنتين.. محور ندوة علمية ثقافية بمدينة سيدي سليمان

احتضن المركز الثقافي بمدينة سيدي سليمان يوم السبت، 25 يناير 2025، ندوة علمية ثقافية بعنوان …