محمد خليفة (*)
العدل صفة من صفات الله، وبالعدل قامت السموات والأرض، وهو قضية مركزية في الكون والخلق، والعدالة هي الفضيلة العليا التي تجعل من الممكن وجود الفضائل الأخرى.
إن العدل هو الركيزة الأساسية التي تقوم عليها المجتمعات المتماسكة والمستقرة، وتمثل العدالة إحدى أبرز القيم المركزية في تكوين المجتمعات الإنسانية ومراحل تحولها الحضاري. ولعل القيمة المركزية التي اكتسبها مفهوم العدالة تعود إلى أنها إحدى المسلمات التأسيسية لمنظومة القيم، والتي تمثل معالجة لنوازع الخير في الإنسان، وسعي دعاة الفكر إلى التذكير والتأكيد لممارسة العدالة في المجالين الاجتماعي والسياسي، فالعدالة هي تكليف أخلاقي تعني الاستقامة. وغداة انتهاء الحرب العالمية الثانية، أسرع المفكرون إلى تقديم قراءة معمقة لكيفية إدراك السلام العالمي انطلاقاً من أصول الوحدة الاجتماعية للبشر.
ففي الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي صدر عام 1948، والذي نص على وحدة الجنس البشري، ومساواة البشر في الحقوق والواجبات، أكد أن أول خطوة في طريق بناء السلام العالمي هي إقرار وحدة الأصل الاجتماعي للبشر جميعاً. وفي الأساس لا يستقيم ميزان العدالة إلا بالحق الكامل، ولا تتحقق الرحمة إلا بالعدل والإحسان. وعندما انفرط ميزان العدل وتغلبت شهوة السيطرة والتسلط، فكانت الحرب العالمية الأولى هي التعبير الأمثل لسعي كل دولة من الدول المتصارعة إلى جعل نفسها قوة مركزية ومسيطرة، وتصبح الدول الأخرى تابعة لها. وقد انتهت تلك الحرب بمأساة إنسانية حيث قتل فيها ملايين البشر وخاصة من أفراد الجيوش المتصارعة، إضافة إلى ملايين المصابين والمشردين من الأبرياء الذين لا ناقة لهم ولا جمل في تلك الحروب.
وقد أدت تلك الحرب إلى ظهور عصبة الأمم التي كان من أهم ما صدر عنها «حق الشعوب المستَعمرة في تقرير مصيرها». وكان ذلك شيئاً إيجابياً يخدم قضية العدل في الأرض، غير أن تلك العصبة تحولت إلى أداة بيد الدول المنتصرة لمعاقبة ألمانيا، والدول المتحالفة معها، من خلال فرض إتاوات ضخمة فيما سمي ب«تعويضات الحرب»، كما تم اقتطاع أجزاء واسعة من أراضي ألمانيا وضمها إلى دول أخرى، من أجل تقليل مساحتها وعدد سكانها، وهذا ما أثار الشعب الألماني ودفعه إلى الانتقام فكانت المأساة الثانية، والتي كرست الواقع الأول مع ظهور قوى عظمى جديدة، وتم إنشاء هيئة الأمم المتحدة كبديل لعصبة الأمم.
تمحورت مبادئ هذه الهيئة حول:«حفظ الأمن والسلم الدوليين، واحترام حقوق الإنسان، وتنمية العلاقات الودية بين الدول، واحترام سيادة الدول، وحل النزاعات بالطرق السلمية، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى». ورغم الهالة السامية التي تحيط بهذه المبادئ، التي لو طبقت لساد العدل في الأرض، لكنها ظلت موضع اختراق من قبل القوى العظمى، الذين وضعوها، فكم تدخلت الولايات المتحدة، على سبيل المثال، لإسقاط هذه الحكومة، أو هذا الرئيس في هذه الدولة أو تلك، خاصة في فترة الحرب الباردة بين المعسكرين الشرقي والغربي.
ويزداد الوضع في العالم سوءاً مع طمس العدالة، وجعل القوة الباطشة هي القانون. والمشكلة التي لم يتخلص منها المجتمع الدولي حتى الآن ما يُعرف بالكيل بمكيالين، فهناك دول فوق القانون الدولي، وهي الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي، ورغم صوابية فكرة وجود دول تكون ضامنة للسلم والأمن الدوليين، لكن هذه الدول، بسياساتها الأنانية، تؤكد أنها ما وضعت لنفسها هذه المزية، حق النقض، إلا لتجعل نفسها فوق القانون، فكم خرقت هذه الدول، والدول الحليفة لها، القانون الدولي من دون رادع أو عقاب. ولعل أوضح مثال على ذلك قضية الشعب الفلسطيني الذي يعيش في أرضه منذ قرون طويلة، لكن اليوم يراد لهذا الشعب أن يترك أرضه ليعيش لاجئاً في مكان آخر.
إن تطبيق العدالة في فلسطين بات أمراً ضرورياً، فكما كانت فلسطين إبان الانتداب البريطاني دولة يعيش فيها العرب والألمان واليونان واليهود، وغيرهم في جوّ من الوئام والسلام، فإنها يجب أن تعود كذلك، وأن يتم القضاء على نزعة الشر في تلك الأرض، فليس هناك من ظلم أكثر من أن يتم طرد شعب بأكمله من وطنه لا لذنب اقترفه. إن هذه القضية تضرب أساس العدل في القانون الدولي، بل إنها قد تشعل فتيل حرب دولية لا أحد يعرف كيف ستكون نهايتها.
إن مختلف دول العالم مطالبة اليوم بالانتصار لمفهوم العدالة في القانون الدولي، فليس هناك أجمل من أن نرى أن العدالة قد تحققت بحذافيرها، وقد أزيل الظلم من هنا أو هناك، وقد عادت البسمة على وجوه الملايين من المكلومين من جراء تفشي الظلم، فالعالم رحب وواسع، ويكفي ليعيش فيه مليارات البشر، ويكفي مثال دولة كجنوب إفريقيا حيث يتعايش الجميع الآن، بيضاً وسوداً، في وئام وحب بعد انتهاء نظام الفصل العنصري الذي تصدى له العالم أجمع حتى أزالوه.
إن العدالة كفيلة بتحقيق كل القيم الإنسانية النبيلة، وتعزز بالعفو والتسامح والغفران على واقع الأمة لما هو أكبر وأشمل في حياة البشرية الكبرى وحياة الكون كله.
(*) إعلامي وكاتب إماراتي، يشغل منصب المستشار الإعلامي لنائب رئيس مجلس الوزراء في الإمارات. نشر عدداً من المؤلفات في القصة والرواية والتاريخ. وكان عضو اللجنة الدائمة للإعلام العربي في جامعة الدول العربية، وعضو المجموعة العربية والشرق أوسطية لعلوم الفضاء في الولايات المتحدة الأمريكية.