أخبار عاجلة

محمد خليفة يكتب: تحول الوعي الغربي والقلق الوجودي

محمد خليفة (*)

تشهد الولايات المتحدة الأمريكية تحولات شديدة السرعة تشمل الاقتصاد والاجتماع والفكر، حيث يعاني المجتمع الأمريكي انقساماً شديداً على المستويين السياسي والاقتصادي، حتى داخل الحزبين الكبيرين داخل الولايات المتحدة، ما جعلها تبحر في خضم الزمان وهي عاجزة كل العجز عن خلق هذا الخضم أو توجيه تياراته.
فعلى المستوى السياسي تشهد الشعوب الغربية اليوم تحولاً كبيراً في النظرة تجاه إسرائيل، فخلال السبعين عاماً الماضية، ظلت تلك الشعوب منسجمة مع سياسات حكوماتها الداعمة والمؤيدة لسياسات إسرائيل تجاه القضية الفلسطينية، وربما كان السبب الأساسي وراء ذلك هو الدعاية الكبيرة التي كانت تُظهر إسرائيل بمظهر الدولة الصغيرة المستضعفة وسط عالم عربي كبير معادٍ لها. غير أن الحرب الإسرائيلية المستمرة على غزة قد غيّرت تلك النظرة، فأصبح انتقاد إسرائيل واتهامها بارتكاب مجازر وحرب إبادة بحق المدنيين الفلسطينيين أمراً طبيعياً.
ولعل التغير الأكبر هو ذلك الذي يحدث في الولايات المتحدة التي كانت ولا تزال الداعم الرئيسي لإسرائيل مالياً وعسكرياً. لكن المجتمع الأمريكي، خاصة الشباب، أصبح يميل لصالح قضية الشعب الفلسطيني، بعد أن رأى القتل العشوائي وخصوصاً للأطفال في مختلف مناطق قطاع غزة، ورأى تدمير البيوت وتدمير المستشفيات، وقطع سبل الحياة عن الشعب الفلسطيني، وكل ذلك وسواه ألهب ثورة ضد الظلم والعنف في وجدان الأمريكيين الذين لا يزالون يكافحون للوصول إلى حقوقهم.
لقد تجسد التغيير في الشاب زهران ممدان، المسلم المنحدر من أصول مهاجرة، والذي تربى في عائلة يسارية حيث أصبح مرشح الحزب الديمقراطي لمنصب عمدة نيويورك، وهو يصرّح علناً، بتعاطفه مع الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة، بل وذهب أبعد من ذلك، حيث صرح بأنه سيأمر باعتقال رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، باعتباره مطلوباً للمحكمة الدولية إذا وطئت أقدامه ولاية نيويورك.
لقد استطاع في حملته أن يكسر كل المسلّمات بالنسبة للخطاب السياسي المقبول للشارع الأمريكي وإعلامه والمتمثلة في الإيمان المطلق بالرأسمالية والدفاع عن إسرائيل، وقد حاز هذا الشاب إعجاب جزء كبير من اليهود وأهمهم المفكر السياسي اليهودي نورمان فينكلشتاين. ونشرت الأسبوع الماضي صحيفة «الواشنطن بوست» تقريراً يشير إلى أن الجيل الجديد من الجمهوريين في الولايات المتحدة يتجهون إلى الابتعاد من الدعم التقليدي لإسرائيل، على عكس الجيل الأكبر سناً. هذا التحول نابع من تركيز الشباب على القضايا الداخلية وتأثرهم بالإعلام البديل وتعاطفهم مع المدنيين في غزة. وردّاً على هذه التحولات بالداخل الأمريكي، ذكرت صحيفة «هآرتس» أن وزارة الخارجية الإسرائيلية ستمول جولة لمؤثرين يمينيين أمريكيين لمواجهة ما تعتبره الحكومة الإسرائيلية تراجعاً في دعم إسرائيل.
لا شك أن تعاطف شعوب الغرب مع الشعب الفلسطيني بشكل متزايد، سوف يشكل مشكلة لصانعي السياسات في تلك الدول، الذين هم منتخبون من قبل شعوبهم وينبغي أن يمثلوا تطلعات وتوجهات تلك الشعوب وبالتالي فإن الحكومات الغربية قد تجد نفسها في مواجهة حقيقية مع شعوبها. وربما قد تكون مضطرة لمراجعة دعمها لإسرائيل كلما أمعنت في قتل المزيد من الشعب الفلسطيني.
ومن جانب آخر فإن استمرار إسرائيل في نهج القتل والتدمير الذي تمارسه بحق قطاع غزة، سوف يقوّض مصداقيتها كنموذج للديمقراطية وحقوق الإنسان في منطقة الشرق الأوسط. وهو الشيء الذي دأبت هي وحلفاؤها الغربيون على محاولة تكريسه في وعي شعوب المنطقة والعالم.
وكانت القضية التي رفعتها جمهورية جنوب إفريقيا أمام محكمة العدل الدولية، والتي اتهمت فيها إسرائيل بارتكاب جريمة «الإبادة الجماعية» بحق سكان قطاع غزة، ذات أثر كبير على نطاق واسع في العالم، قد لقيت تلك الدعوى تعاطفاً كبيراً من قبل دول كثيرة، وخصوصاً أن جنوب إفريقيا ليست دولة عربية ولا مسلمة، لكنها دولة تدافع عن الحق ضد الظلم الذي تعرض جزء كبير من شعبها لشيء مماثل له قبل إنهاء نظام الفصل العنصري فيها في مطلع التسعينات من القرن الماضي.
وقد أقر الحكم المؤقت الأخير لمحكمة العدل الدولية، بمعقولية ادعاءات جنوب إفريقيا بارتكاب إسرائيل إبادة جماعية في غزة، وهذا الحكم المنصف قد ألحق ضرراً كبيراً بصورة إسرائيل على المستوى الدولي، وزاد من النفور الشعبي العام لها في مختلف مناطق العالم. وربما لن يجد الحكم النهائي الذي سيصدر عن هذه المحكمة طريقه إلى التنفيذ ومعاقبة إسرائيل، لكنه سيبقى في سجلّها الدولي كدولة ارتكبت جريمة الإبادة الجماعية بحق شعب أعزل. ولعل موقف إسرائيل القوي اليوم قد يتجه نحو الضعف مع التحول الكبير في الاقتصاد لمصلحة دول جديدة خارج بلاد الغرب مما سيترك أثراً سيئاً على مستقبلها، حيث تشير التوقعات إلى انزياح القوة الاقتصادية من الغرب باتجاه الشرق والجنوب العالمي، وهناك مجموعة من الدول الكبرى الجديدة الناشئة التي سوف تحكم المشهد الاقتصادي في العالم في المستقبل القريب، وهذه الدول هي، الصين وروسيا والبرازيل وإندونيسيا وجنوب إفريقيا، وغيرها من الدول التي بدأت تظهر كقوى اقتصادية دولية جديدة والتي لا تخضع لأي سيطرة من قبل إسرائيل، ولا تقيم أي علاقات خاصة معها.

(*) إعلامي وكاتب إماراتي، يشغل منصب المستشار الإعلامي لنائب رئيس مجلس الوزراء في الإمارات. نشر عدداً من المؤلفات في القصة والرواية والتاريخ. وكان عضو اللجنة الدائمة للإعلام العربي في جامعة الدول العربية، وعضو المجموعة العربية والشرق أوسطية لعلوم الفضاء في الولايات المتحدة الأمريكية.

شاهد أيضاً

محمد خليفة يكتب: الظلم.. والألم الإنساني

محمد خليفة (*) الحرب شكّلت وتشكّل عالم الظلمات، كما أنها تؤثر سلباً في كينونة الإنسان …