محمد خليفة (*)
في قمة واشنطن التي عُقدت في البيت الأبيض، حيث استقبل الرئيس الأمريكي ترامب عدداً من قادة الدول الأوروبية، من بينهم الرئيس الأوكراني زيلينسكي، كانت الصور التي نُشرت تحمل دلالات عميقة في قراءة المشهد. فقد نشرت وسائل إعلام روسية صورة للقادة الأوروبيين ينتظرون عند المكتب البيضاوي للاجتماع بترامب، وكأنهم «طلاب» ينتظرون أمام مكتب «المدير».
وقد فسر المحللون وأقطاب السياسة والاقتصاد هذه الصورة: رسالة من ترامب لشعوب العالم بأنه الشخص الذي يمسك بزمام القرن الواحد والعشرين، عندما قال«أريد إخماد الحروب ونشر السلام لأدخل الجنة» وزعم أنه أخمد 7 حروب في العالم.
يتعامل ترامب مع قادة العالم على أساس أنه نقطة ارتكاز الكون والمهيمن عليه، مع أن العالم يعيش أحداثاً يصعب التنبؤ بها حتى على صعيد معاهد الدراسات الاستراتيجية في أرقى مؤسسات العالم. ولا أحد يعرف ما يمكن أن يحدث على الخريطة السياسية في العالم بشكل عام. ولكن فسر المحلّلون النفسيون أن مبالغة الرئيس ترامب في نرجسيته بعد أن أخذ نصيبه من التميز والشهرة، قد فجرت لديه المزية التراكمية وجعلته الرئيس الأقدر على تحقيق صورة بناء فوقي تتمترس وراء قوة الأنا الشمولية حتى في فنون الخطابة واستثارة الغرائز، وسط عوامل نفسية مختلطة ترتفع به أحياناً إلى مدارات، أو تهبط به نحو منحدرات، وربما تضعه بين خيارات لا يضبطها انسجام ولا يسودها توافق، مما ينشأ عنه تحول في التوجّه وتبدل في الرؤية، لاعتقاده بأنه يمتلك كثيراً من الخصائص لها صفات الشمولية، بحيث تصبح الأنا هي المدار لتصرفاته مع الآخرين، وتنعكس على نظرته إلى ذاته بغير المنظار الذي يراه من خلاله المجتمع، سواء الذين يعايشونه أو الآخرون الذين يلتقون به، لأنه يصنع لنفسه تخيلات يتمثلها لذاته، فلا يرى نفسه كما هي واقعيتها، وإنما يراها من منظور مغاير للواقع مضاد للحقيقة، فلا تعكس ذاته الخاصة، وإنما تعكس الصورة المتفردة التي يرى نفسه عليها ولا يراه الآخرون.
وهذا التفرد المزعوم يواكبه الصورة التي تنطوي على مثل هذا التصنيف، أو الروح التي تنشر هذه النزعة، وسط هالة لامعة من الرؤى الغائمة. وهذا يخالف طبيعة الأشياء، فالنرجسية ليست حديثة، بل هي قديمة قدم الإنسان على الأرض، وقد جسّدتها أسطورة نرجس في قصيدة التحولات للشاعر الروماني أوفيد، ذلك الشاب اليوناني الذي رفض عروض المحبين الذين اقتربوا منه، ووقع بدلاً من ذلك في حب انعكاس صورته في ماء النهر، دون أن يدرك بأنها مجرد صورة، وأصبح كل يوم يذهب إلى النهر ليرى انعكاس صورته، ولم يعد يرغب بالعيش، وبقي يحدق بصورته إلى أن مات. وهذه القصة الخرافية تخفي خلفها حكمة تتمثل في أن من يعشق ذاته يخسر تعاطف الناس معه وحبهم له.
وقد تنامت آفة النرجسية والتعالي كثيراً في هذا العصر، بسبب المغريات والنعم التي جعلت الكثير من الناس يعيشون في وهم عالم خاص، نسجوه من وحي خيالاتهم المريضة، ويعتقدون أنهم يمتلكون الحقيقة المطلقة، وينتفشون ويتعالون، وكأن حديثهم فوق حديث البشر، وفكرهم أعظم من أفكار الفلاسفة، وعلماء الفيزياء. هذا النوع من البشر عندما تأخذهم الخيلاء، بما بلغوا من ثراء مادي، يقعون في عشق ذواتهم وتتوالى عليهم الأيام والسنون حتى يغادروا الحياة، بعد أن يتركوا بصمتهم المفعمة بالأنانية.
النرجسية أو مايسمى في علم النفس «اضطراب الشخصية النرجسية» «NPD»، وهي مُوضّحة في الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات العقلية «DSM»، وهو المرجع المُعتمد من قِبل الجمعية الأمريكية للطب النفسي حول حالات الصحة العقلية. ويُعرّف الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات العقلية «اضطراب الشخصية النرجسية» بأنه «نمط من العظمة، والحاجة إلى الإعجاب، ونقص التعاطف». وسبب ظهور هذا المرض النفسي يعود إلى حياة صعبة عاشها الشخص المريض في طفولته، كأن يكون قد عانى الفقر، أو تعرض للتنمّر، أو عاش في أسرة مفككة تفتقر إلى التعاطف، وبالتالي فإن هذا الشخص عندما يكبر وتقبل عليه الدنيا، فإنه ينظر إلى أفراد المجتمع بالتعالي، وينظر إلى نفسه بأنه أفضل من الآخرين وأن هؤلاء أدنى منه.
وربما كان حب التعالي مكتسباً من جينات وراثية تغذيها عوامل، ومكتسبات عديدة في الحياة. والنرجسية إما «نرجسية أولية»، تُمثل مرحلة من مراحل النمو في الطفولة المبكرة، ويُعبّر عن أجزاء من هذا «حب الذات» أو «الأنا» ظاهرياً. أو «نرجسية ثانوية» نتيجةً لملاحظة الطبيعة الخاصة لعلاقة المصاب بالفصام بنفسه وبالعالم، ويلاحظ أن الصفتين الأساسيتين لهؤلاء المرضى هما جنون العظمة وحب الأنا.
إعلامي وكاتب إماراتي، يشغل منصب المستشار الإعلامي لنائب رئيس مجلس الوزراء في الإمارات. نشر عدداً من المؤلفات في القصة والرواية والتاريخ. وكان عضو اللجنة الدائمة للإعلام العربي في جامعة الدول العربية، وعضو المجموعة العربية والشرق أوسطية لعلوم الفضاء في الولايات المتحدة الأمريكية.