محمد خليفة (*)
منذ قدم التاريخ والموت يمثل حالة من القسوة، لأنه انتزاع الحياة، التي تبقى على قسوتها أحيانا أجمل هبة للإنسان، وهي حق أصيل كفلته الشرائع والأديان قبل أن تكفله القوانين الوضعية والإنسانية.
وتبقى غزة المدينة الجميلة، حالة خاصة وفريدة في تاريخ البشرية، وهي امتداد لتاريخ فلسطين؛ حيث المعاناة التي لا تنتهي منذ عقود؛ إذ ينشر الموت أثوابه، ويعلق الحزن راياته صباح مساء، فقد أصبح الحزن قراراً وليس اختياراً، على الرغم من انتشار كروم العنب وعبق النرجس وغابات الزيتون، تروي الأم الفلسطينية بدموعها وأحياناً بدمائها أرضها التي لا تعرف إلا الموت عنواناً لقصتها، التي ترويها لأبنائها وأحفادها قصة الشتات والتشرد، الموت والجراح، الحزن الذي أصبح ضيفاً دائماً على موائد أهلها.
إن ما يحدث من تحولات في العالم يفرض على ضمير المثقف أن يكون أداة كشف وتنوير، وأن يحسن صوغ الأحداث تتيح له تشكل عقلانيات أكثر وسعاً وأشد تركيباً بمفهوم التنوير الفني. وقد جسد ذلك في مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي، فقد أثار فيلم «صوت هند رجب» للمخرجة العربية كوثر بن هنية تأثراً واسعاً خلال عرضه في المهرجان، وحظي بأطول تصفيق حار له لمدة 22 دقيقة وسط دموع وهتافات «فلسطين حرة».
يروي هذا الفيلم القصة الحقيقية للطفلة الفلسطينية هند رجب، البالغة من العمر خمس سنوات، والتي قُتلت في المراحل الأولى من الحرب في قطاع غزة، أثناء فرارها مع عائلتها من مدينة غزة. عاشت خوف اللحظة الوشيكة قبل أن تسلم للموت، ليس أقسى وأمر من لحظة أخيرة للإدراك النهائي عندما ترى حياتها بكاملها لم يتبق منها إلا لحظة الحاضر المهددة بانتهاء وشيك، تزداد تلك المرارة ويزداد الخوف حتى تعرضت السيارة التي كانت تقلّ هذه الطفلة للقصف، ما أسفر عن مقتل عمها وعمتها وثلاثة من أبناء عمومتها. وتُركت عالقة لساعات في السيارة وهي تتحدث عبر الهاتف مع جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني، وبينما كان المسعفون يحاولون إنقاذها. عندما تم الوصول إليها أخيراً، أطلقت دبابة إسرائيلية 335 طلقة على السيارة. فقتلت الطفلة هند وقتل المسعفون أيضاً. وقد استُخدم تسجيل هاتفي لصوت هند رجب في الفيلم. وقالت المخرجة كوثر بن هنية لدى تسلمها جائزة «الأسد الذهبي» عن هذا الفيلم وسط تصفيق الحضور وقوفاً: «السينما لا تستطيع إعادة هند إلى الحياة، لكنها قادرة على حفظ صوتها. الطفلة هند رجب كانت تحترق وهي تولول رعباً في السيارة وهي تصارع الوحل والنيران، لكن الجندي الإسرائيلي المدجج بنصوص توراتية يطلق الرصاص حتى همدت الطفلة وتمزق جسدها وتفحم الرصاص». ولكن كم من الأطفال الفلسطينيين في غزة قتلوا وتيتموا وتشردوا، والطفلة الصغيرة التي انتشرت مقاطع فيديو لها وأخوها يحملها على كتفيه ويمشي بها لمسافات طويلة، تعبر عن مأساة أولئك الأطفال؛ بل عن مأساة شعب بأكمله محروم من الحق في الحياة.
الثقافة صانعة الصور، وحوّل الفيلم الطفلة إلى أيقونة عالمية. شجن صاعق تحت أقدام الهمجية وجنون التوحش. الفيلم يظهر التوحش غير الإنساني، صوت التمزق المرعب في الذاكرة في وطن يتنفس رائحة الموت. أحداث الفيلم تحمل الكثير من سيكولوجية العبث لسلوك الجندي الإسرائيلي الهمجي في غزة، أحداث تجعل المرء يفكر كيف يصبح إنسان القرن العشرين مثقلاً بهذا التوحش والبدائية؟!
إن صوت الفن الحقيقي هو صوت الإنسانية الموحد لذا انبرى 1500 من صناع السينما حول العالم إلى إدانة ما يجرى، ووقعوا على عريضة تاريخية تحت عنوان «لن نتعاون مع إسرائيل» معلنين أن الصمت على ما يجرى في غزة لم يعد خياراً، مطالبين حكوماتهم بالتوقف عن دعم الإبادة. وفي الولايات المتحدة رفع أكثر من 4000 ممثل وفنان ومنتج بينهم نجوم بارزون في هوليوود أصواتهم عبر بيان لمقاطعة المؤسسات السينمائية الإسرائيلية المتهمة بالتواطؤ ضد الفلسطينيين، ووقعوا على عريضة يرفضون التعامل فيها مع شركات إسرائيلية.
لقد أدى المجتمع السينمائي، الإيطالي والغربي والعالمي من ممثلين ومخرجين ومنتجين ومصورين، رسالته وأظهروا منتهى الإنسانية من خلال تعاطفهم مع قصة تلك الطفلة التي تجسد فلسطين الجريحة.
لا شك أننا اليوم أصبحنا أمام واقع خطِر، فإسرائيل أصبحت تعلن، بلا خوف، أنها تريد تهجير سكان قطاع غزة، ومؤخراً، أنذرت سكان مدينة غزة بإخلائها تحت القصف، كما أنها تواصل عمليتها العسكرية «عربات جدعون» في مختلف مناطق القطاع بهدف قتل أكبر عدد من الفلسطينيين، وتقوم أيضاً، بمحاصرة قطاع غزة بحجة منع وصول السلاح إلى المقاومة، لكن حصارها تسبب في حدوث مجاعة هائلة، فمن لم يمت من جراء القصف، فهو يموت من جراء الجوع. وقد كتب أحد علماء التوراة اليهود آهاد هآم يقول إن «اليهود الذين كانوا عبيداً في الشتات أصبحوا طغاة في فلسطين، إنهم يعاملون العرب معاملة شرسة وعدوانية ويحرمونهم من كافة حقوقهم ويستفزونهم دونما سبب، وهم يتفاخرون بأعمالهم هذه، وأن البعض منا قلقون من أن تصبح دولة إسرائيل شراً لا على العرب فقط؛ بل على اليهود أيضاً».
لقد قال الفن كلمته، وعبر صناع السينما عن ضمائرهم الحية، فمتى يعبر الساسة عن ضمائرهم لوقف نزيف الدماء التي تسيل، والموت الذي ينشر أشرعته في كل مكان؟!
(*) إعلامي وكاتب إماراتي، يشغل منصب المستشار الإعلامي لنائب رئيس مجلس الوزراء في الإمارات. نشر عدداً من المؤلفات في القصة والرواية والتاريخ. وكان عضو اللجنة الدائمة للإعلام العربي في جامعة الدول العربية، وعضو المجموعة العربية والشرق أوسطية لعلوم الفضاء في الولايات المتحدة الأمريكية.