حمزة محول (*)
تعد اللامركزية الترابية في المملكة المغربية ركيزة أساسية لتحقيق تنمية متوازنة عبر منح الجهات والجماعات المحلية استقلالية أوسع في تسيير شؤونها المحلية، وترتكز هذه الآلية على تعزيز الحكامة المحلية من خلال تفويض الصلاحيات الإدارية والمالية، مما يساهم في اتخاذ قرارات أكثر ملائمة لخصوصيات كل منطقة، كما تهدف إلى تحقيق الاستدامة التنموية عبر توزيع عادل للموارد وضمان استغلالها الأمثال، هذا ما يلبي الحاجات المحلية ويقلص التباينات بين الجهات.
يرتبط تدبير المجال بشكل وثيق بفعالية اللامركزية، حيث يعتمد على تنظيم الاستغلال العقلاني للموارد الطبيعية وخلق توازن بين الأنشطة الاقتصادية والاجتماعية، ويساهم هذا النهج في تجنب التركيز المفرط للاستثمارات في مناطق محدد ويعزز العدالة المجالية، من خلال تفعيل الجهوية المتقدمة، أصبحت الجهات تلعب دورا محوريا في تصميم سياسات تنموية تتناسب مع إمكاناتها الذاتية {الزراعة أو السياحة أو الصناعة}، وذلك وفق رؤية تشاركية مع الفاعلين المحليين.
حيث عرف تدبير المجال في المغرب تطورًا تاريخيًا عبر مراحل متعددة، من التنظيم التقليدي قبل الاستعمار الذي ميز بين بلاد المخزن وبلاد السيبة، إلى فترة الحماية التي شهدت إدخال مفاهيم حديثة للتخطيط المجالي لخدمة المصالح الاستعمارية. بعد الاستقلال، ورثت الدولة مجالًا غير متوازن، فركزت على تعميم المرافق وتحسين البنية التحتية. رغم الجهود المبذولة، استمرت التفاوتات المجالية بسبب غياب تخطيط شمولي. ومع مرور الوقت، بدأت الدولة تعتمد استراتيجيات أكثر تكاملًا لتحقيق تنمية عادلة بين مختلف الجهات.
وهذا ما يؤدي إلى طرح إشكالية جوهرية ما مدى قدرة اللامركزية الترابية على تعزيز تدبير المجال وتحقيق تنمية محلية متوازنة بالمغرب؟
• اللامركزية الترابية وتدبير المجال
تعد اللامركزية الإدارية آلية محورية لتدبر المجال الترابي، من خلال منح الجماعات الترابية صلاحيات واسعة في تسيير شؤونها وفقا خصوصيات كل منطقة، ويؤكد الدستور المغربي في بابه التاسع على مبدأ ” التدبير الحر”، الذي يكرس استقلالية هذه الجماعات في اتخاذ القرارات المتعلقة بتنمية مجالها الترابي، بما يضمن مراعاة الحاجات المحلية ويعزز المشاركة الفعلية للسكان في صنع السياسات العمومية.
وترسي القوانين التنظيمية للجماعات الترابية {الجهات، العمالات والأقاليم والجماعات} إطارًا قانونيًا واضحًا لتنفيذ اللامركزية، عبر مبدأ “التفريع” الذي يُنظم توزيع الاختصاصات بين السلطات المركزية والجماعات الترابية، حيث تُمارس هذه الأخيرة اختصاصات ذاتية تخصها حصريًا، مثل تدبير المرافق المحلية، إلى جانب اختصاصاتٍ مُنقولةٍ تفوضها لها الدولة في مجالات كالتخطيط الحضري أو حماية البيئة، مما يُسهم في تقريب الخدمات من المواطنين وتبسيط الإجراءات الإدارية.
يُعتبر رئيس المجالس الجماعات الترابية دورا المحورية في هذا النظام، إذ يلعب دور “أمر الصرف” المسؤول عن اتخاذ القرارات المالية والتنفيذية، بدءًا من إعداد الميزانية المحلية وصولا إلى الإشراف على مشاريع التنمية. وتُعزز هذه الصلاحيات دور الجماعات في تحقيق إدارة مرنةٍ، وفعَّالة قادرة على الاستجابة السريعة للتحديات المحلية، مثل توفير البنى التحتية أو تحسين جودة الخدمات الاجتماعية في إطار التكامل مع السياسات الوطنية.
يستهدف هذا النموذج اللامركزي تحقيق تنمية ترابية مستدامة ومتوازنة عبر تعزيز الحكامة المحلية وترشيد استغلال الموارد. إذ تُساهم الفعالية الإدارية للجماعات في تقليص الفوارق المجالية، وجعل التنمية نتاجًا تشاركيا يعكس أولويات السكان، مع الحفاظ على التماسك بين الرؤية الوطنية والخصوصيات الجهوية كمدخل لتعزيز العدالة الاجتماعية والاقتصادية على مستوى التراب الوطني.
• اللامركزية الترابية وسؤال التنمية المحلية
في سياق تفعيل الجهوية المتقدمة، باتت الجهات في المغرب فاعلا مركزيا في تنفيذ السياسات العمومية، حيث تعتبر قاطرة لترجمة الأهداف الوطنية إلى إجراءات ملموسة على المستوى الترابي. ويعكس برنامج التنمية الجهوية هذا التوجه عبر تمكين الجهات من تحديد أولويات تنموية تتناسب مع خصوصياتها المجالية، وتوجيه الموارد المالية والبشرية لتنفيذها، بما يعزز الانسجام بين التخطيط المركزي والمتطلبات المحلية.
من ناحية أخرى، تُساهم المصالح اللاممركزة في دعم هذه السياسات عبر آليات “ميثاق اللاتمركز الإداري”، الذي يُنظم توزيع الصلاحيات بين المركز والجماعات الترابية {الجهات والعمالات والأقاليم} ويُحدد أدوار الأطراف في مجالاتٍ مثل البنية التحتية أو الخدمات الاجتماعية. ويُعهد إلى الوالي كممثل للسلطة المركزية مهمة تنسيق عمل هذه المصالح داخل النطاق الترابي للجهة، وهذا الأمر كذلك بالنسبة العامل داخل نطاق الترابي للعمالة أو الإقليم، مما يُعزز التكامل بين البرامج التنموية ويُجنب التضارب في الاختصاصات.
يُسهم هذا النموذج في تعزيز الحكامة الترابية عبر خلق توازن بين اللامركزية (التي تُعطي صلاحيات للجهات والعمالات والأقاليم) واللاتمركز الذي يُحافظ على التنسيق مع المركز). إذ يُتيح النظام تفعيل أدوار تشاركية بين الفاعلين المحليين، ويربط بين التخطيط الاستراتيجي للدولة والتنفيذ المرن على الأرض، كمدخل لتحقيق التنمية المتوازنة وتعزيز الثقة في المؤسسات المحلية.
• خاتمة
تجسد للامركزية الترابية في المغرب رؤية استراتيجية لتحقيق تنمية مجالية متوازنة، تعكس تنوع الخصوصيات الجهوية وتعزيز مشاركة السكان في صنع السياسات العمومية، فقد مكنت الجهوية المتقدمة الجهات والجماعات الترابية من لعب أدوار محورية في تدبي المجال، عبر تفعيل الصلاحيات الإدارية والمالية، وتحسين جودة الخدمات المحلية، إلا أن هذه الآلية تواجه إكراهات هيكلية تحد من فاعليتها، أبرزها ضعف الموارد المالية والبشرية واختلالات التنسيق بين المركز والمحلي والتباين في توزيع الاختصاصات بين الجماعات.
لتحويل اللامركزية الى رافعة حقيقة للعدالة التنموية، يتطلب الأمر تعزيز التكامل بين السياسات الوطنية والجهوية، وتبني آليات تمويل عادلة تغطي احتياجات المناطق الهشة، وإدماج التحول الرقمي في التخطيط الترابي لضمان الشفافية والكفاءة، كما يظل بناء القدرات المؤسساتية للنخب المحلية، وتعزيز الديمقراطية التشاركية، عنصرين حاسمين لضمان استدامة النموذج اللامركزي.
وفي الختام يبقى نجاح اللامركزية رهينا بمواءمة الإطار القانوني والواقع الميداني، وخلق من التحديات فرص عبر مقاربة تشاركية تدمج كافة الفاعلين، وهكذا يمكن للمغرب أن يرسى نموذجا تنمويا يحقق التماسك الترابي، ويحول التنوع الجهوي الى ثورة وطنية تعزز مكانته كدولة نامية.
(*) طالب باحث في ماستر التدبير العمومي والمالية العامة بكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية اكدال