أخبار عاجلة

محمد خليفة يكتب: جائزة نوبل.. وعصر القوة

محمد خليفة (*)

الهيمنة المطلقة للعقل ساعدت المفكرين على فهم ظواهر التفسير العلماني للعالم، محل التفسير الكهنوتي التقليدي الذي ساد القرون الوسطى كلها. وهكذا ظهر العقل كمقياس لكل الأشياء العلمية، فالزمن الذي يجري بانتظام هو زمن الحداثة العلمية في العالم.
كان العالم إسحاق نيوتن من بلور هذا التصور عن الزمن، والواقع أن المفكرين الأوروبيين استخدموا المنهج الجدلي كثيراً خلال ألفي عام، ثم جاء غاليليو لكي يؤكد أن كتاب الطبيعة والكون مكتوب بلغة الرياضيات. ومن ثم العلم حقق قفزات رائعة في مجال استكشاف القوانين الفيزيائية والرياضية التي تتحكم بالكون، ما أدى إلى تقدم الصناعة والتكنولوجيا بشكل لم يسبق له مثيل في التاريخ، لإرادة الإنسان وعزمه على التسامح وتجاوز ناسوته باندماجه في مثالية عقلية والانعتاق من المعطيات التجريبية إلى الكشف عن الحقائق الحدسية، أي الحقائق التي تتجاوز عالم الظواهر والمادة، كما قال الفيلسوف سقراط، إن الحقيقة لا تكمن في ظواهر الأشياء التي تصورها لنا حواسنا. فهذه الظواهر متغيرة، لذلك فإن الحقيقة توجد في تصورات العقل، أي في الكليات.
إنه عالم الامتثال، هو عالم الظواهر والحقائق، وهذا الذي تجسد بشكل مذهل اليوم في الموقع الإلكتروني المعاصر، بل أصبح صانعاً لنمط من التلاقي والمحاكاة بين الناس. وتمكن العلماء من تسخير القوانين الكونية بإيجاد الوسائل والأساليب للتعامل معها، والمحاولة الدؤوبة لفهم الكون. وجائزة نوبل قد أسهمت في أن يتشكل العالم على صورة الفكر والعلم والمعرفة.
لم يكن ذلك المهندس العبقري ألفريد برنهارد نوبل، يعلم أن جائزته ستصبح معلماً من معالم عصرنا الراهن. والحق أنها أضحت عنواناً للتميز والتفوق والطموح غير المتناهي. وفي كل عام تقوم الجهة المسؤولة عن هذه الجائزة، بتكريم علماء وأدباء واقتصاديين من مختلف دول العالم، قدموا شيئاً جديداً للبشرية. ورغم كثرة الجوائز المماثلة الأخرى، لكن تبقى «جائزة نوبل» هي الأهم، ربما لأنها الأقدم، مضى عليها 125 سنة، وهي مستمرة في تقديم الجوائز سنوياً.
وجائزة نوبل هي عنوان لعدة جوائز تمنح من قبل مؤسسات سويدية ونرويجية، وقد قام ألفريد نوبل بالمصادقة على الجائزة في وصيّته التي وثّقها في النادي السويدي النرويجي، وتمنح المؤسسات السويدية جوائز في الكيمياء، والأدب، والفيزياء والطب، ثم أُضيف إليها مجال خامس في العلوم الاقتصادية. وقد خصص نوبل جائزة أخرى لصانعي السلام، ووفقاً لإرادته، فإن تلك الجائزة تمنح للشخص الذي قام في السنة السابقة «بأكثر أو أفضل عمل للتآخي بين الأمم، من أجل إلغاء أو تخفيض الجيوش الدائمة ومن أجل عقد السلام والترويج له». وكانت ناشطة السلام النمساوية «برثا فون سوتنر»، الدافع لكي يقوم بإنشاء جائزة للسلام، فأسست مؤسسة نمساوية للسلام، ووضعت كتاب «أسقطوا الأسلحة» الذي أكسبها شهرة عالمية، وقد تأثر بفكرها كلّ من الفيلسوف وعالم الاجتماع هربرت سبنسر، والعالم تشارلز داروين، وهنري توماس باكل مؤلف كتاب «تاريخ الحضارة في إنجلترا».
وقد أصبحت أول امرأة تنال جائزة نوبل للسلام عام 1905، وجائزة نوبل في الكيمياء. ويتم منح جائزة نوبل للسلام سنوياً في العاصمة النرويجية أوسلو في العاشر من ديسمبر(كانون الأول) من قبل اللجنة النرويجية لجائزة نوبل. وقد تم منح تلك الجائزة لأول مرة للسويسري «جان هنري دونانت» الذي كان رجل أعمال وناشطاً اجتماعياً، وهو مؤلف كتاب «ذكريات سولفرينو» الذي مهد لتأسيس الصليب الأحمر لمساعدة ضحايا الحروب، كما شاركه في الجائزة الفرنسي فريدريك باس الذي كان ناشط سلام وأسس «الرابطة الدولية للسلام» وجمعية أصدقاء السلام الفرنسية.
وفي العام الماضي تم منح جائزة نوبل للسلام لمنظمة «نيهون هيدانكيو» اليابانية المناهضة للأسلحة النووية والمعروفة أيضاً باسم «هيباكوشا» التي عملت على جمع شهادات ناجين من القصف الذري على هيروشيما وناغاساكي، للضغط من أجل إخلاء العالم من السلاح النووي. وقد تم اختيار تلك المنظمة لمنحها جائزة نوبل للسلام، من أجل تذكير العالم بخطورة تلك الأسلحة على البشرية. وقد قال رئيس لجنة نوبل «يورغن واتني فريدنيس» لدى إعلانه اسم الفائز، إن اللجنة اختارت تكريم المنظمة «لجهودها المبذولة من أجل عالم خالٍ من الأسلحة النووية ولإثباتها، عبر شهادات، أن الأسلحة النووية يجب ألا تستخدم مجدداً بتاتاً».
لا شك أن العالم قد دخل في منحنى خطر اليوم بسبب اشتداد الصراع بين القوى العظمى، والذي يمكن ملاحظته في الحروب التي تحدث هنا وهناك، والتي من المحتمل أن تشتدّ أكثر في المستقبل القريب. وتأخذ معها الأمن والاستقرار، مع أن التطور الحاصل في العالم لم يعد يحتمل المزيد من الحروب التي تنجم عنها كوارث في مختلف المجتمعات والدول. ولذلك فإن الدعوة إلى السلام باتت حاجة ضرورية، وينبغي أن تنهض همم المخلصين في العالم من أجل السعي لمنع وقوع حرب عالمية كبرى مرة أخرى. ويوم الثلاثاء الماضي، أعلنت الهيئة المانحة لجائزة نوبل في الفيزياء فوز العلماء جون كلارك وميشيل ديفوريه وجون مارتينيس بجائزة نوبل في الفيزياء لاكتشافهم نفقاً ميكانيكياً وتكميماً للطاقة في دائرة كهربائية.
إن جائزة نوبل للسلام فرصة لشحذ الهمم، وتقوية العزائم لصنع سلام حقيقي ينعم به الجميع، وتُحقن به دماء الأبرياء حول العالم.

(*) إعلامي وكاتب إماراتي، يشغل منصب المستشار الإعلامي لنائب رئيس مجلس الوزراء في الإمارات. نشر عدداً من المؤلفات في القصة والرواية والتاريخ. وكان عضو اللجنة الدائمة للإعلام العربي في جامعة الدول العربية، وعضو المجموعة العربية والشرق أوسطية لعلوم الفضاء في الولايات المتحدة الأمريكية.

شاهد أيضاً

محمد خليفة يكتب: أمريكا والتحولات السوسيولوجية

محمد خليفة (*) ما شقته الحداثة الكونية خصوصاً الأخلاقية، ومنها القيم التي تشترك فيها شعوب …