محمد خليفة (*)
ما شقته الحداثة الكونية خصوصاً الأخلاقية، ومنها القيم التي تشترك فيها شعوب العالم كالعدالة الاجتماعية والمساواة والكرامة والفضيلة، لكن عندما تهمش تلك القيم وتحارب بطرق ملتوية تتصاعد أصوات الفئة القيمية التي تدافع عن تلك القيم في مقابل الطرف الآخر الذي يدعي بهتاناً أنه يعمل وفق منهجيته المصلحية في فرضية اللامعقول، نتيجة إيديولوجيات سفسطائية إقصائية ذات أسلوب متعالٍ بما يؤدي إلى الاختناق ووقوع الصدام القيمي بين المجتمعات.
وها هو اليوم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الذي يجسد، متمثلاً في سياسته حالة لم يُسبق إليها في تاريخ الولايات المتحدة، ما أثار جدلاً واسعاً بين السياسيين والمفكرين الذين يمثلون صفوة الفكر الإنساني، وهو يُمثل استثناء بين كلّ الرؤساء الذين حكموا الولايات المتحدة منذ استقلالها عام 1783. ولعل الذي جعل ترامب مميزاً واستثناء هو أنه صاحب ثراء واسع، كما أنه ليس حزبياً، ولم يتدرج في المراتب الحزبية من القاعدة إلى القمة، كما يفعل السياسيون الآخرون، بل إنه اقتحم السياسة ورشح نفسه للرئاسة، وتبناه الحزب الجمهوري بسبب طروحاته المحافظة التي توافق أفكاره وتوجهاته.
وكان للتدهور الحاصل في الاقتصاد الأمريكي دور في تمكين ترامب، لأنه طرح خططاً جريئة لإنقاذ البلاد من مهوى الإفلاس وعلى رأسها مبدأ «أمريكا أولاً». وخلال ولايته الأولى، أثارت سياساته غضب الكثير من الأمريكيين، وحدث ما يسمى «مسيرة النساء» والتي ضمت نحو 3.5 مليون متظاهر في جميع أنحاء الولايات المتحدة. وعندما عاد ترامب من جديد مطلع هذا العام، شهدت الأشهر الثلاثة الأولى من ولايته، حوالي 3 أضعاف عدد الاحتجاجات التي شهدتها فترة رئاسته الأولى بأكملها. فقد شهد شهر إبريل/نيسان الماضي، تظاهرات شملت أرجاء واسعة من البلاد بسبب سياسة ترامب ومساعده إيلون ماسك في تخفيض الإنفاق الحكومي، والتي أدت إلى تسريح آلاف الموظفين الحكوميين من وظائفهم، وكذلك تم تنظيم تظاهرات «لا للملوك» في بورتلاند، أوريغون، من قِبَل منظمة «إنديفيزابل»، ومنظمات تقدمية أخرى كجزء من تحالف يضم أكثر من مئتي مجموعة، بما في ذلك «50501»، و«حركة الفصل الثالث»، و«الاتحاد الأمريكي للمعلمين»، و«الضمان الاجتماعي»، و«عمال الاتصالات في أمريكا»، و«الاتحاد الأمريكي للحريات المدنية»، و«المواطن العام»، و«موف أون».
وقد صرح المنظّمون: إن هذه الاحتجاجات «هي ردّ على ادعاء ترامب نفسه بأنه «ملك» والعديد من منشورات إدارته التي تصوّره كملك. وأيضاً هي ردّ على سياسات وإجراءات الرئيس ترامب، بما في ذلك ميوله الفاشية المزعومة، والتراجع الديمقراطي في الولايات المتحدة. وقد أطلق الحزب الجمهوري على هذه الاحتجاجات اسم احتجاجات «كراهية أمريكا». وقد نظمت، الأسبوع الماضي، حركة «لا للملوك» احتجاجات واسعة في العاصمة واشنطن وفي جميع أنحاء الولايات المتحدة. ورفع المتظاهرون، الذين قدّر عددهم بنحو 5 ملايين متظاهر، شعارات منها «لا للملوك» و«ترامب يجب أن يرحل».
وقال ترامب في مقابلة مع قناة فوكس نيوز، قبل مغادرته لحضور حملة تبرعات ضخمة للجنة العمل السياسي «MAGA Inc» في منتجع «مار آلاغو» بفلوريدا: «يقولون إنهم يشيرون إليّ كملك. أنا لست ملكاً». وقد جاءت هذه الاحتجاجات على خلفية الإغلاق الحكومي منذ مطلع أكتوبر بسبب الفشل في تمرير مشروع قانون التمويل في مجلس الشيوخ، والذي يهدف إلى تمديد سقف التمويل الفيدرالي مؤقتاً.
وما زاد الطين بلة، أن إدارة ترامب قد اتبعت سياسات فاشية في ما يتعلق بالمهاجرين غير الشرعيين، والتي يراها الكثير من الأمريكيين أنها تخدم مصالحهم. لكن السؤال هو، هل ستردع تلك الاحتجاجات إدارة ترامب، وهل يمكن عزل الرئيس إذا استمرت الاحتجاجات، وزاد الغضب الجماهيري عليه؟ في الواقع ينص الدستور الأمريكي في البند الرابع من المادة الثانية منه، على جواز عزل الرئيس ونائبه، وجميع الموظفين المدنيين في الولايات المتحدة من مناصبهم في حال إدانتهم بتهم «الخيانة أو الرشوة أو غيرها من الجرائم والجنح الكبرى». غير أن العزل فيما عدا ذلك هو أمر غير قابل للتحقق، وقد تعرض ترامب خلال ولايته الأولى لمحاولة عزله. واعتمد مجلس النواب مادتي العزل ضده بتهمة، إساءة استخدام السلطة، وعرقلة عمل الكونغرس. ثم بعد فترة، صوّت مجلس الشيوخ على تبرئة ترامب من مادتي العزل. ومن قبل في حالات مشابهة، فقد تم عزل كل من أندرو جونسون 1868، وبيل كلينتون، من قبل مجلس النواب، لكن مجلس الشيوخ برأهما.
إن الرئيس ترامب يحظى بتأييد قطاع كبير من الشعب الأمريكي، إضافة إلى الحزب الجمهوري الذي يمثله، كذلك عدد كبير من رجال المال والإعلام، لذا فإن عملية عزلة تبدو نوعاً من المناكفات السياسية التي لا تسمن ولا تغني من جوع.
(*) إعلامي وكاتب إماراتي، يشغل منصب المستشار الإعلامي لنائب رئيس مجلس الوزراء في الإمارات. نشر عدداً من المؤلفات في القصة والرواية والتاريخ. وكان عضو اللجنة الدائمة للإعلام العربي في جامعة الدول العربية، وعضو المجموعة العربية والشرق أوسطية لعلوم الفضاء في الولايات المتحدة الأمريكية.
 المستقبل 24 جريدة إلكترونية مغربية أخبار متنوعة
المستقبل 24 جريدة إلكترونية مغربية أخبار متنوعة
				 
		 
						
					 
						
					 
						
					 
						
					 
						
					 
						
					 
					
				