محمد خليفة (*)
تتسارع خطا الزمان من جيل إلى جيل لتعزف سيمفونية الوجود، وفق أيديولوجيات متسارعة من النظريات السياسية والحقوقية والأخلاقية. والتي تفرض أسئلة كبرى في الوجود والحياة تشغل الفلاسفة والمفكرين من جيل إلى جيل.
أسئلة تجعلنا ننظر ونفكر في تسارع الزمن وتقلبه وانعكاساته على كل ما حولنا، في ماهيته وكينونته وحقيقته والاستعداد لمواجهة هذه التحولات، خاصة التقلبات السياسية التي تؤسس إمبراطورية على أنقاض أخرى، وما تفرضه التقلبات السياسية والاقتصادية اليوم تجعلنا نتأمل مشهد الختام الذي ربما يأذن بأفول إمبراطورية كبرى.
لعلها المرة الأولى في تاريخ الدبلوماسية الأمريكية تحدث تلك المتغيرات التي صاحبت توجهات الرئيس الأمريكي ترامب السياسية، وهي متغيرات متسارعة وارتباك في طبيعة التعامل السياسي مع دول العالم، وما تتسم به حالة من الانفلات واتساع مساحة عدم اليقين بين الشعب الأمريكي، بعد أن شكل فوز زهران ممداني في منصب حاكم ولاية نيويورك، صدمة ديمغرافية في الولايات المتحدة، فقد أيقظ فوز هذا الشاب المسلم الطموح ذاكرة الأمريكيين بأن بلادهم تتحول وتتغير، فما كان في السابق يسمى «دولة أمريكية لأمة بيضاء» أصبح اليوم «دولة لأمة من الملونين».
وتُعد نيويورك مركز ثقل في الاقتصاد الأمريكي منذ أواخر القرن التاسع عشر، حيث مثّل افتتاح بورصة نيويورك عام 1817 بداية الشهرة المالية للمدينة، وتُعدّ بورصة نيويورك الآن الأكبر في العالم، وفي هذه المدينة يوجد مقر عدد من البنوك وشركات الاستثمار الكبرى، مثل: غولدمان ساكس، وجي بي مورغان تشيس، ومورغان ستانلي، والتي تتولى إدارة استثمارات بقيمة تريليونات الدولارات، لكن لا بد من التأكيد أن القانون الأمريكي هو القابض على التوازن في النظام السياسي، وهو الذي يمنح حقوقاً متساوية لكل الأعراق في المشاركة السياسية.
هذا القانون يمنح الحق لكل شخص منتخب من قبل الشعب لشغل أي منصب من المناصب العامة في الدولة، لكن رغم ذلك فإن فوز شاب مثل: زهران ممداني بمنصب عمدة الولاية الأكبر في الولايات المتحدة أمر يثير السؤال الصعب عن كينونته وماهيته ومآله ومصيره، لكن كيف حدث ذلك؟! فهو ابن للأستاذ والمخرج السينمائي الشهير الذي يدرّس في جامعة كولومبيا، ووالدته المخرجة السينمائية، وقد وصف زهران نشأته بأنها «متميزة»، وكان نبوغه واضحاً منذ طفولته.
فبعد تخرجه في مدرسة برونكس الثانوية للعلوم في نيويورك، حصل على درجة البكالوريوس بتخصص الدراسات الإفريقية من كلية بودوين في ولاية «مين»، ودخل ميدان السياسة المحلية في مدينة نيويورك كمدير حملة انتخابية لخضر اليتيم الذي هو قس لوثري من أصل فلسطيني برز كمرشح ديمقراطي لمجلس مدينة نيويورك عام 2017، وتم انتخابه لأول مرة لعضوية جمعية ولاية نيويورك، في الانتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطي، ثم أعلن ممداني ترشحه لمنصب عمدة مدينة نيويورك في انتخابات 2025، وفي الانتخابات العامة التي جرت في 4 نوفمبر(تشرين الثاني) الحالي، تحدى ممداني كل التوقعات وفاز على أندرو كومو وعلى المرشح الجمهوري كورتيس سليوا معاً. وشارك في هذه الانتخابات مليونا ناخب.
وقد ركز ممداني في حملته الانتخابية على الجانب الاقتصادي الاجتماعي، فمن خلال حياته في تلك المدينة وجد أن الأغلبية هناك هم من الفئات العاملة الذين لا تتناسب مدخولاتهم مع نفقاتهم، بسبب ارتفاع الإيجارات وأجور النقل والمواد الغذائية والتموينية، ولذلك وعد الناخبين بحلول جذرية لمشاكلهم فمالوا إليه.
وقد أشار استطلاع رأي أجرته مؤسسة «ماريست» في وقت سابق من هذا العام إلى أن ممداني حظي بدعم كبير من الجالية اللاتينية والإسبانية في نيويورك، فقد رأوا فيه الرجل المناسب لمواجهة حملة الرئيس دونالد ترامب للترحيل الجماعي، حيث كثّف عملاء دائرة الهجرة والجمارك الأمريكية (ICE) التابعة لترامب مداهماتهم لما يسمى «المدن الزرقاء»، أو الأحياء التي يكثر فيها المهاجرون وقد نجح ممداني في استخدام الإعلام لتسويق نفسه للناخبين وقد كان يظهر في التجمعات الانتخابية، وهو يقف أمام لافتات كُتب عليها «مدينة نستطيع تحمل كلفتها».
وكانت الرسالة الأوسع لحملته هي أن «الحياة يجب ألّا تكون بهذه الصعوبة ويمكن أن تكون نيويورك أقل كلفة، ومن واجب الحكومة تحقيق ذلك».
ولم يعتمد فقط على الإعلام المدفوع، بل تجاوز حدود الحملات التقليدية، حيث عقد مؤتمراً صحفياً مخصصاً فقط «للمبدعين والمؤثرين»، مما أدى إلى أكثر من 31 ألف بث مباشر ووصول إجمالي المشاهدين إلى عشرات الملايين وفي خطاب فوزه بشّر زهران ممداني بعهد جديد لمدينة نيويورك، كما أنه وجّه التحدي للرئيس دونالد ترامب، مُحذّراً من أنه «إذا كان هناك من سبيل لإرهاب طاغية، فهو تفكيك الظروف التي سمحت له بتجميع السلطة».
لا شك أن نجاح الشاب زهران ممداني، يدل على أن أمريكا هي بلد الفرص، وأن القانون في هذه الدولة هو الحاكم للجميع.
(*) إعلامي وكاتب إماراتي، يشغل منصب المستشار الإعلامي لنائب رئيس مجلس الوزراء في الإمارات. نشر عدداً من المؤلفات في القصة والرواية والتاريخ. وكان عضو اللجنة الدائمة للإعلام العربي في جامعة الدول العربية، وعضو المجموعة العربية والشرق أوسطية لعلوم الفضاء في الولايات المتحدة الأمريكية.
المستقبل 24 جريدة إلكترونية مغربية أخبار متنوعة