أخبار عاجلة

سعيد لكبوري يكتب: حين سرق حمدي ولد الرشيد زمن السمارة لأجل الصين

سعيد لكبوري (*)

الباب الأزرق

في قلب السمارة، يقف باب أزرق حديث، مزخرف بأشكال هندسية تحاكي ذاكرة الأندلس وروح الصحراء. ليس بابًا قديمًا، لكنه يحمل سرًا غريبًا: كل مرة أقف أمامه أشعر وكأنه يعبر عتبة زمنية، لا مكانية.

هنا، أمام هذا الباب، وقف يييانغ للحظة قبل أن يغادر المدينة. كنا سنشتري هدايا من مجمع الصناعة التقليدية، وقلبه محملًا بشيء أثقل: إحساس غامض بأن السمارة لم تكن مجرد محطة عابرة، بل كانت عتبة إلى فهم جديد للوجود نفسه.

لكنه لم يكن يعرف بعد أن هذا الباب الأزرق سيصبح استعارة لما سيحدث له بعد ساعات قليلة: باب سيُفتح في اللحظة التي كان يُفترض أن يُغلق للأبد.

1: الرسام الذي لم يمت

في الصباح الباكر، قبل أن تستيقظ المدينة، قدته إلى جولة المدينة. كانت الشمس ما تزال خجولة، والهواء يحمل برودة الليل الصحراوي.

..وقف يييانغ أمام نقش لغزال. خطوطه بسيطة، بدائية، لكنها مشحونة بحضور غريب. لمس الحجر ببطء، وأصابعه ترتجف قليلًا.

قلت بصوت منخفض: “هذا الرسام لا نعرف اسمه، ولا نعرف متى عاش بالضبط. ربما قبل عشرة آلاف سنة، ربما أكثر.”

صمت يييانغ، ثم همس: “لكنه لم يمت.”

نظرت إليه باستغراب.

أكمل يييانغ: “أعني… نحن الآن نقف هنا، نلمس ما لمسه، نرى ما رآه. هو ميت بيولوجيًا، لكنه حي في هذا الحجر. الموت ليس نهاية الجسد، بل نهاية الأثر. وهذا الرجل… أثره ما يزال حيًا.”

ابتسمت ابتسامة عميقة، كمن يرى تلميذًا يفهم درسًا صعبًا للمرة الأولى.

“الصحراء، يا يييانغ، ليست مكانًا فارغًا. إنها ذاكرة محفورة. كل حجر هنا شاهد. كل كثيب هنا أرشيف. نحن لا نمشي على رمال، بل نمشي على طبقات من الزمن المتراكم.”

في تلك اللحظة، أدرك يييانغ شيئًا مذهلًا: أن الحضارة ليست ما نبنيه من أبراج، بل ما نتركه من آثار في روح المكان. الصين بنت سورها العظيم، لكن هذا الرسام المجهول بنى شيئًا أعظم: بنى جسرًا بين الماضي والحاضر، بين الموت والخلود.

2: الشاي المسكوب من علو

في واد سلوان، جلس يييانغ في خيمة بالية. كانت العصافير تتحرك ببطء محسوب، والشمس تسكب نارها على أشجار الطلح. لا ضجيج، لا استعجال، لا قلق.

سكب له المرافق كأس شاي من علو. انسكب السائل الذهبي في قوس طويل، وكأنه شلال صغير من الزمن السائل.

سأل يييانغ: “لماذا تسكبونه من علو؟”

أجاب المرافق بابتسامة غامضة: “لنعطي الهواء فرصة أن يتذوقه قبلنا.”

فُتح فم يييانغ ليرد، لكنه أغلقه. الجواب لم يكن منطقيًا، لكنه كان صحيحًا بطريقة ما.

أكمل المرافق: “الشاي ليس مجرد شراب، يا ضيفنا. إنه طقس. والطقس هو ما يميز الإنسان عن الحيوان. الحيوان يشرب ليروي عطشه. أما الإنسان، فيشرب ليصنع لحظة.”

أخذ يييانغ رشفة بطيئة. كان الشاي مرًا وحلوًا في آن، معقدًا كالحياة نفسها.

قال المرافق: “في الصين، أنتم تشربون الشاي بصمت، كتأمل. وهذا جميل. أما نحن، فنشربه بكلام، كاحتفال. طريقتان مختلفتان لنفس الحقيقة: أن الشاي هو طريقة لإبطاء الزمن.”

ثم أحضر له طبقًا من المشوي الساخن. انصهر الشحم ببطء على قطع الكبدة، وفاحت رائحة الدفء والبيت والحنين.

قال المرافق: “هذا الطعام بسيط، لكنه محمّل بالزمن. زمن الرعاة الذين رعوا الأغنام، زمن النساء اللواتي عجنّ العجين، زمن النار التي أنضجته ببطء. كل قضمة هي طبقة جيولوجية من التاريخ الإنساني.”

في تلك اللحظة، فهم يييانغ أن الحضارة لا تُقاس بسرعة إنتاجها، بل بعمق طقوسها. وأن الطعام البطيء هو مقاومة ضد الزمن السريع.

3: الكابوس

ثم جاءت اللحظة التي تحوّل فيها كل شيء إلى كابوس.

كان يييانغ يقف أمام مجمع الصناعة التقليدية، يختار هدايا لأصدقائه في نيوكاسل: كدحة صغيرة، علبة من الشاي، قنديل نحاسي. كان مفتونًا بالتفاصيل، منغمسًا في اللحظة، وكأن الزمن توقف.

ثم نظر إلى ساعته.

الثامنة مساءً.

تجمّد.

طائرته من العيون تقلع في العاشرة والنصف. والطريق يحتاج ساعتين ونصف على الأقل.

شعر بالدم يتجمد في عروقه. ليس فقط لأنه سيفوّت الطائرة، بل لأن كل شيء سينهار: تذكرة الطائرة التي لا يمكن تغييرها، الامتحان الذي سيُعقد بعد يومين، التأشيرة التي ستنتهي صلاحيتها، المستقبل كله المعلّق على خيط رفيع اسمه “موعد الإقلاع”.

اتصلت بالسائق. ركضوا نحو السيارة. انطلقوا بأقصى سرعة.

كان الطريق مستقيمًا، لا نهائيًا، قاسيًا. والشمس كانت تغرب ببطء ساخر، كأنها تستمتع بعذابه. مرّت الكيلومترات ثقيلة كالحجارة. كل دقيقة كانت سنة، وكل سنة كانت عذابًا.

وصلوا إلى مطار العيون في العاشرة وعشر دقائق.

اندفع يييانغ نحو بوابة الصعود، قلبه يخفق كطبل الحرب، وجسده يرتجف من الإرهاق والخوف.

لكن الموظفة أوقفته بيد ممدودة، حازمة كحكم القدر:

“آسفة يا سيدي. البوابة مغلقة.”

4: حين يُفتح الباب المغلق

في تلك اللحظة، شعر يييانغ بشيء غريب ومرعب في آن: شعر أن الحضارة الحديثة، بكل ساعاتها الذرية وجداولها الدقيقة وأنظمتها المحكمة، كانت في الواقع أكثر قسوة من الصحراء.

الصحراء تمنح الزمن. أما الحضارة، فتسرقه.

الصحراء تقول: “خذ وقتك”. أما الحضارة، فتقول: “لقد تأخرت عشر دقائق، وهذا يكفي لتدمير حياتك.”

وقف مذهولًا، عاجزًا، مهزومًا. كل ما بناه، كل ما خطط له، كل ما حلم به، ينهار الآن أمام عينيه بسبب عشر دقائق.

ثم، كأن الصحراء استدعت أحد حكمائها، ظهر رجل.

لم يظهر كبطل في فيلم هوليوود، بل كظاهرة طبيعية. حضوره كان يحمل نفس الوزن الذي تحمله الكثبان الرملية: شيء لا يُجادَل، موجود منذ الأزل، يفرض نفسه بهدوء.

إنه حمدي ولد الرشيد، رئيس جهة العيون الساقية الحمراء.

..وكأنه يعرف أن هذا النوع من الفضول النادر يستحق أن يُكافأ، لا أن يُعاقب.

اقترب من يييانغ بهدوء، ووضع يده على كتفه. لم تكن لمسة عابرة، بل كانت لمسة محمّلة بشيء أعمق: بالحماية، بالكرم، بالانتماء.

قال بصوت هادئ، لكنه كان يحمل سلطة الصحراء كلها:

“الصحراء لا تترك ضيوفها.”

ثم التفت إلى الموظفة. لم يقل شيئًا. لم يرفع صوته. لم يُصدر أمرًا. فقط نظر إليها.

لكن تلك النظرة كانت تقول كل شيء:

أن هناك قوانين أعلى من جداول الطيران.

أن الكرم أقدم من البيروقراطية.

أن الإنسان أثمن من الساعة.

تردّدت الموظفة للحظة، نظرت إلى الساعة، ثم إلى حمدي، ثم إلى يييانغ.

ثم، كأن بابًا أزرق غير مرئي قد انفتح في الهواء، قالت:

“تفضل يا سيدي. لكن اركض.”

5: الدرس

ركض يييانغ نحو الطائرة كأنه يركض نحو الحياة نفسها. صعد الدرج، قلبه يكاد ينفجر.

قبل أن يدخل، التفت لينظر إلى حمدي، الذي كان يقف بعيدًا، يلوّح له بابتسامة دافئة كشروق الشمس على الكثبان.

صاح يييانغ بصوت مبحوح: “شكرًا! شكرًا سيدي!”

أجاب حمدي بصوت يحمله الهواء: “عُد مرة أخرى يا ولدي. والمرة القادمة، امنح السمارة أكثر من يوم. الصحراء تستحق زمنًا أطول.”

6 : ما كُتب في الطائرة

جلس يييانغ في مقعده، والطائرة تخترق السحب. كانت يداه ترتجفان، ليس من الخوف، بل من شيء آخر: من الإدراك.

فتح دفتر ملاحظاته وكتب، والدموع تحاول أن تخون عينيه:

“الصين بنت سورها العظيم لحماية حضارتها من البرابرة. لكن من يحمي الحضارة من نفسها؟ من يحميها من أن تتحول إلى آلة باردة تقيس الإنسان بالدقائق والثواني؟

في السمارة والعيون، لم يكن هناك سور. لكن كان هناك شيء أعظم: رجال يعرفون أن الزمن ليس سيدًا، بل خادمًا. رجال يعرفون أن الحضارة الحقيقية لا تُقاس بقدرتها على بناء الأبراج، بل بقدرتها على إيقاف الزمن لأجل إنسان واحد، غريب، ضائع.

اليوم، سرق مني الزمن يومًا كاملًا. لكن رجلًا اسمه حمدي ولد الرشيد أعاده لي. لا، لم يُعده. بل علّمني أن الزمن لم يكن ملكي أصلاً.

الزمن ملك اللحظة التي نعيشها. ملك الإنسان الذي نلتقيه. ملك الصحراء التي تهمس: إبطئ، أنت لست آلة.

في السمارة، لم أتعلم التاريخ. بل تعلمت أن التاريخ ليس ما مضى، بل ما نحمله في كل خطوة. وأن أعظم الحضارات هي تلك التي تعرف أن الإنسان أثمن من الساعة، وأن اللحظة أبقى من الإمبراطورية.”

7 : الباب الأزرق لا يُغلق

صباح هذا اليوم ، حين صار يييانغ على بعد دقائق من مدينته، علّقت في مكتبتي صورة لباب أزرق في السمارة.

سألني صدييقي (إبن السمارة) : “ما قصة هذا الباب يا سعيد؟”

كنت أبتسم وأقول: “هذا ليس بابًا. هذه استعارة.”

“استعارة لماذا؟”

“لفكرة أن الأبواب المغلقة يمكن أن تُفتح، إذا كان هناك من يؤمن بأن الإنسان أهم من القانون، وأن الكرم أقوى من النظام.”

كان يييانغ يروي لهم القصة. قصة يوم واحد في السمارة. قصة رجل اسمه حمدي ولد الرشيد، الذي سرق الزمن من فم الحضارة الحديثة، وأعاده لشاب صيني ضائع.

وكان يختم دائمًا بنفس السؤال، ويتركه معلقًا في الهواء:

“ما هي الحضارة الأعظم: تلك التي تبني أطول الأبراج، أم تلك التي تعرف متى تُوقف الزمن؟”

الأثر الذي لا يموت

اليوم، في مكان ما في السمارة، يقف باب أزرق حديث. ليس قديمًا، لكنه يحمل ذاكرة.

وفي مكان ما في بكين، يُعلّم طالب زملاءه أن الحضارة ليست ما نبنيه، بل ما نتركه في أرواح الآخرين.

وفي مكان ما بين السمارة وبكين، يستمر الزمن في الدوران، لكنه يتوقف أحيانًا، لأجل لحظة واحدة، لأجل إنسان واحد، لأجل درس واحد:

أن الرسام الذي رسم الغزال قبل عشرة آلاف سنة لم يمت. وأن حمدي ولد الرشيد، الذي فتح بابًا في لحظة مستحيلة، لن يموت أيضًا.

لأن الأثر الحقيقي ليس ما نبنيه من حجارة، بل ما نزرعه في القلوب.

..وهكذا، في لحظة واحدة أمام بوابة مطار، سرق حمدي ولد الرشيد زمن السمارة لأجل الصين. أو ربما، أعاد للزمن معناه الحقيقي: أن يكون في خدمة الإنسان، لا سيدًا عليه.

(*) مرشد سياحي

شاهد أيضاً

ذ. عبد القاوي: مشروع قانون تنظيم مهنة المحاماة: شروط على المقاس تقصي الكفاءات وتنسف روح الديمقراطية

في الوقت الذي ينتظر فيه المحامون المغاربة، وخاصة بهيئة المحامين بالدار البيضاء، إصلاحًا حقيقيًا وعادلًا …