محمد خليفة (*)
الحرب، كما سطرت كتب التاريخ، قديمها وحديثها، هي نتيجة حتمية عندما يحتدم أي صراع فكري أو اقتصادي أو عقدي. قانون أثبتته مجريات الأحداث والآثار على أنها قوانين أزلية لا تتبدل أو تتغير بتغير الزمان أو المكان أو الأفراد.
إن صراع الجماعات، لا يختلف عن صراع الدول، يتبع في معظمه لإرادة وإدارة سياسية تسبقه، والحرب تلي فكرة الحرب وإرادتها، أي يسبقها الجانب الفكري، الذي يعبّئ النفوس، ويخلق الدوافع والمبررات، ويشحذ الهمم لبذل النفس والمال، في سبيل غاية كبرى هي الانتصار وإلحاق الهزيمة بالعدو، من أجل هذه الغاية تُزهق الأرواح، وتُبذل التضحيات. في مقابل هذا النزوع إلى العنف السيكولوجي والعقد العنيف والصوت المرتفع، يخفت صوت الحكمة ويلبس الباطل ثوب الحق ويضيع مفهوم العدل.
فالحرب، مهما كانت مبرراتها، تعبير عن سيطرة النزاعات الشريرة للأمم، خاصة تلك الأمم المهووسة بالقيم المادية، يطغى عليها قانون القوة، في ظل عجز الآخر، تعلو الرغبة في فرض إرادة المتجبر. وهذا ما هو الواقع، فحرب غزة أكثر المعارك شراسة، فما قامت به إسرائيل لا يوصف، ألقت على غزة 65 ألف طن من المتفجرات، وهذا يزيد على حجم قنبلتي ناغازاكي وهيروشيما النوويتين اللتين ألقيتا على اليابان في الحرب العالمية الثانية. واستشهد 32 ألف شخص (رجل وامرأة وطفل) وأكثر من 20 ألفاً مازالوا عالقين تحت الأنقاض، وحوالي 64 ألف جريح، ودمرت المستشفيات والمدارس ودور العبادة. وأعلن الجيش الإسرائيلي أنه نفذ عشرة آلاف غارة جوية على قطاع غزة (ثلاثمئة وستين كيلومترأً مربعاً)، وهذا الرقم لم تتعرض له دول كاملة خلال الحرب العالمية الثانية.
غزة تتعرض لخطر موجة من المجاعة أدت إلى موت آلاف الناس، خاصة الأطفال والنساء. وهو خطر بات جاثماً على صدور الجميع، بمن فيهم من يقومون بعمل إنساني، من الأطباء وموظفي المنظمات الدولية الإغاثية، والصحفيين الذي ينقلون الأحداث. لقد امتد الجوع من جنوب غزة إلى شمالها. ولم يكن الجوع المعاناة الوحيدة التي تعصف بالشعب الفلسطيني في غزة، بل تداعت المشاكل الواحدة تلو الأخرى، ومن كل حدب صوب، لتحل بثقلها وهمومها الإنسانية على كاهل المواطن الفلسطيني الذي يعجز عن الحصول على قوته وقوت أطفاله. وهنا تبدأ أول أشكال المعاناة، وهو سوء التغذية الذي يجلب الأمراض المتعددة، ويقلل المناعة لدى الصغار، حتى يتفشى فيهم المرض، ليبدو هزال أجسامهم دليل تعدد الأمراض نتيجة الحرب، لتزداد المعاناة حتى تصل إلى مرحلة الموت، لتشمل حوالي مليونين من سكان غزة، يعيش معظمهم، قبل اندلاع تلك الأحداث في السابع من أكتوبر/تشرين الأول، تحت خط الفقر بسبب الحصار الذي فرضته إسرائيل.
لقد تضاعفت، بلا شك، نسبة الفقر بعد الأحداث، حيث تظهر شاشات المحطات الفضائية، وما يُبثّ على منصات التواصل الاجتماعي من مقاطع مرئية، من المعاناة الشديدة التي اضطرت العديد من أهل غزة إلى صناعة الخبز من علف الحيوانات، ومحاولات الأطفال نبش الحاويات بحثاً عما يجدونه من طعام يسد رمقهم، وجمع الكراتين في هيئة يرثى لها من الملابس الممزقة، يتدلى نصفهم من حاويات القمامة، يبحثون عن ضالتهم بانهماك بين القاذورات المبعثرة، ليحصلوا على ما يقتاتون به هم وأسرهم، وحسب تقرير للأمم المتحدة، فإن نحو 576 ألف شخص يعيشون في مستويات غذائية كارثية، أو دخول في نطاق المجاعة. لقد ازدادت كثيراً حاجة الأطفال إلى خدمات الصحة العقلية والدعم النفسي- الاجتماعي. هذا هو حال الشعب الفلسطيني في غزة، الجميع، وفي مقدمتهم الأطفال، يعانون الفقر والجوع والمرض والموت والحصار وخذلان القانون الدولي. وفي ظل هذه الأجواء العابقة باليأس، أحرق جندي في سلاح الجو الأمريكي نفسه أمام مبنى السفارة الإسرائيلية في واشنطن، الاثنين الماضي، وكان يصرخ: «أنا لن أشارك في الإبادة الجماعية».
(*) إعلامي وكاتب إماراتي، يشغل منصب المستشار الإعلامي لنائب رئيس مجلس الوزراء في الإمارات.
نشر عدداً من المؤلفات في القصة والرواية والتاريخ. وكان عضو اللجنة الدائمة للإعلام العربي في جامعة الدول العربية،
وعضو المجموعة العربية والشرق أوسطية لعلوم الفضاء في الولايات المتحدة الأمريكية.